تمويل الدمار السوري: كيف استنزف بشار الأسد ثروات سوريا لتمويل بقائه؟

img

تمويل الدمار السوري: كيف استنزف بشار الأسد ثروات سوريا لتمويل بقائه؟

سقوط نظام الأسد في دمشق لم يكن مجرد حدث عسكري فحسب بل كان بمثابة زلزال اقتصادي وسياسي كشف عن هشاشة نظام بنى سلطته على الفساد والقمع لعقود طويلة. سنوات من استغلال موارد البلاد ونهب ثرواتها وتدمير بنيتها التحتية كشفت الوجه الحقيقي للنظام. ورغم كل هذه العوامل، لم تكن كافية لضمان بقاء الأسد في السلطة حتى موعد الانتخابات المزعومة لعام 2028. كان تمويل الحرب، الذي استنزف آخر قطرة من موارد سوريا، بمثابة حبل المشنقة الذي التف حول عنق النظام.

لطالما تفاخر بشار الأسد بقوة نظامه وصلابته في مواجهة ما أسماه بـ 'الحرب الكونية' عليه, ورغم العزلة الشديدة التي فرضها المجتمع الدولي على نظامه فقد استطاع الأسد أن يتجاوز تأثير العقوبات الدولية القاسية (خاصة قانون قيصر وشهادة حفار القبور). لكن ذلك لم يكن ليحمي النظام من أزمات اقتصادية عميقة، إذ نقل تبعات العقوبات إلى السوريين، بينما أطلق شركات خاصة تعمل في الظل لضمان المزيد من الضغط على السوريين داخل البلاد وخارجها.

لكن كيف استطاع نظام الأسد من تمويل حربه المدمرة على مدى 13 عاماً من الثورة السورية؟
من أين كانت تتدفق الأموال التي مكنت آلة القتل من الاستمرار؟ وكيف أدى استنزاف ثروات سوريا إلى هذا الانهيار الاقتصادي الحاد الذي سبق سقوطه؟
ما هي أبرز القطاعات التي استغلها النظام لتمويل عملياته العسكرية وقمع المعارضة؟
وما هو الدور الذي لعبه المقربون من النظام، مثل رامي مخلوف وغيره، في نهب ثروات البلاد وتحويلها لخدمة بقاء النظام؟
هل كان للدعم الإيراني والروسي الاقتصادي ثمنٌ باهظٌ دفعته سوريا على المدى الطويل؟
ما مصير الشركات الإيرانية التي استثمرت في سوريا بعد سقوط نظام الأسد؟ هل كانت هذه الشركات مربحة حقاً؟
ماذا كانت خطة حافظ الأسد مع تجار دمشق بعد انقلابه عام 1970؟ ولماذا أرسل حافظ "مصطفى طلاس" إلى ليبيا عام 1984؟

هذا المقال ليس مجرد سرد لأحداث تحرير سوريا، بل هو تحقيق في الجذور الاقتصادية لهذا الانهيار. سنحاول إلقاء الضوء على جزء يسير من هذه التساؤلات، مدركين أن الحقيقة الكاملة تتجاوز بكثير حدود مقال واحد، وتستدعي سنوات من البحث والتحقيق.


تُشكل شبكة الفساد التابعة لنظام الأسد منظومة متكاملة حيث تُسن القوانين لتسهيل عملها وتُسخر مؤسسات الدولة لخدمة مصالحها وتستغل هذه الشبكة المناصب والنفوذ لتحقيق أهدافها, وقد تلجأ إلى التضحية ببعض رموزها في محاولة يائسة لتطهير سمعتها الملطخة. تمتد هذه المنظومة من أعلى الرتب والمستويات إلى أدناها وتنتقي عناصرها بعناية فائقة من خلال ترشيحات صادرة عن الكيانات الموازية لمؤسسات الدولة كحزب البعث وأجهزة المخابرات. وبذلك، يجد المرء نفسه أمام شخصيات فاسدة ومفسدة تهابها النفوس الشريفة وتتذلل لها ضعاف الإيمان.



Síria: perfil de uma nação marcada pelo autoritarismo e pela guerra - BBC News Brasil

(Credits: في صيف 1971، حافظ الأسد في ساحة إدلب)

"لنا الإمارة .. ولكم التجارة": صفقة حافظ الأسد مع تجار دمشق

في السياق التاريخي لسوريا بعد انقلاب حزب البعث في آذار 1963، والذي حول سوريا إلى بؤرة من الفساد بسبب اعتماد نظام الاقتصاد الاشتراكي الموجّه، وما أدى لخروج رؤوس الأموال السورية، وكانت البنوك اللبنانية والتركية وجهتها، استدعى انقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني 1970 أن يعقد صفقات ترضية مع تجار دمشق.

يمكن تلخيص هذه الصفقات بشعار "لنا الإمارة .. ولكم التجارة" حيث سمح حافظ الأسد للتجار باستعادة جزء من نفوذهم الاقتصادي بعد فترة من المد الاشتراكي وترك لهم مساحة واسعة من الإفادة المالية مقابل دعم لا محدود له لا سيما إبان مع جماعة الإخوان المسلمين في حماة وحصار حلب في نهاية السبعينيات حتى 1982 حيث سمح حافظ الأسد للتجار بالاستيراد والتصدير وممارسة أنشطتهم التجارية تحت إشراف الدولة ومنحهم تمثيلاً في مجلس الشعب مقابل دعمهم السياسي وعدم تدخلهم في شؤون السلطة.

اعتمد حافظ الأسد سياسة "توريط الجميع" لضمان الولاء والتستر على نهب المال العام، فجعل الفساد نهجاً للمسؤولين وأغرقهم فيه تدريجياً حتى وجد الكثيرون أنفسهم شركاء في الدفاع عن نظامه دون وعي كامل ولم يقتصر هذا الأمر على كبار الموظفين بل امتد ليشمل صغارهم حتى أصبح الفساد هو القاعدة، والاستقامة هي الاستثناء النادر.

بعد استقرار حكم حافظ الأسد عقب أحداث حماة، وفي ظل تخصيص 85% من الميزانية للدفاع، برز شعار "التوازن الاستراتيجي" عام 1984 إثر خلافه مع شقيقه رفعت الأسد حيث اضطر حافظ لدفع مبلغ ضخم لرفعت للخروج من سوريا بعد نهب خزينة الدولة، ولإنقاذ الاقتصاد لجأ حافظ لإرسال مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري آنذاك إلى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي، والذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع القذافي، ليقدم مساعدة مالية ليسدد دفعة إلى رفعت والباقي أودعه في الخزينة العامة، تبع ذلك انهيار الليرة السورية إلى نحو 10 أضعاف ما كان عليه حيث ارتفع سعر الدولار من 4.5 إلى 45 ليرة مما أدى لنقص حاد في السلع الأساسية.

لجأ النظام لتجاهل التهريب من لبنان بقيادة كبار الضباط وأقارب الأسد مما أدى لظهور "الشبيحة" (وهم العصابات والأفراد الخارجين عن القانون يستخدمون العنف والتهديد بالسلاح وذلك من أجل ابتزاز وإرهاب الناس وممارسة نشاطاتهم خارج إطار القانون كالتهريب والتجارة بالممنوعات والعمل الذي يقومون به يدعى التشبيح أي الابتزاز والسرقة عن طريق العنف والتهديد بالسلاح, ثم توسع مدلول هذه الكلمة بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 حتى أصبح يطلق على الأفراد أو الميليشيات الداعمة لنظام بشار الأسد ورفعوا شعار "شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد" — "الأسد أو نحرق البلد").

كان معدل دخل المواطن السوري منذ الانهيار الاقتصادي عام 1984 حتى وفاة حافظ أسد عام 2000 لا يتجاوز 60$ شهرياً وكانت أي زيادة في الرواتب والأجور تلتهمها الأسعار رغم الإنتاج النفطي الهائل في الشرق (400 ألف برميل يومياً غير معلنة) فقد اقتصرت البيانات الرسمية على 9 آلاف برميل فقط ووُضعت العائدات في حسابات سرية سويسرية بأسماء أبناء حافظ الأسد أشهرها حساب باسل. كشفت فضيحة بعد وفاة باسل عن مليارات في تلك الحسابات واستعاد رفيق الحريري جزءاً منها لصالح بشار.



تيليغراف: هل حقاً يريد العالم إعادة تأهيل بشار الأسد؟!


الوريث يكمل الطريق

حتى بعد موت حافظ فقد ترك إرثاً ثقيلاً اعترف به وريثه بشار بنفسه, ففي مطلع الألفية وبعد تعديل الدستور السوري ليناسب عمر مرشح رئيس الجمهورية بشار (والذي كان آنذاك أقل من 34 عاماً بشهور قليلة والدستور السوري كان يحدد عمر الرئيس 40 سنة) بدأ بشار الأسد حكمه بشعاراتٍ براقةٍ وعلى رأسها مكافحة الفساد بالإضافة إلى الإصلاحِ والشفافية, لكن سرعان ما تحولت كلمة "الفساد" إلى الكلمة الأكثر تداولاً في قاموس النظام السوري, ليس في سياق المكافحة بل في الانتشار والممارسة بحد ذاتها ففي أواخر عام 2018 أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي حول مؤشر مدركات الفساد لعام 2018 حيث حلت "سوريا الأسد" في المرتبة 178 من أصل 180 دولة, متساويةً بذلك مع اليمن, لتصبح بذلك ثاني أكثر دولة فساداً في العالم بعد الصومال, وبالتالي لم يكن مستغرباً على الإطلاق أن يتصدر الفساد أروقة حكومة الأسد وأن تصبح الرشوة عرفاً طبيعياً جداً بين الموظفين الحكوميين وحتى كل السوريين يعرفون أن مصالحهم لن تنجز ما لم تدفع "المعلوم" وهي كناية عن الرشوة بحكم الأمر الواقع.

كانت خطة بشار الاقتصادية تتلخص في أمرين مهمين أصبحا عنوان المرحلة:
  • نزع الاقتصاد من يد الأغلبية السنية وجعله في متناول يده عبر أشخاص وشركاء ووساطات متمثلاً بواجهته المالية رامي مخلوف.
  • سيطرة إيران على الاقتصاد السوري من خلال مشروعات إيرانية في سوريا, والغاية منها ليس مد النفوذ الإيراني فحسب بل تثبيت حكم نظام الأسد وحاشيته ومن ثم العمل على تشييع السنة بعد إفقارهم عبر مشروع "تصدير الثورة الإسلامية".
اعتمد النظام خطة ذكية لسحب الأموال من المواطنين تدريجياً كلما زادت وذلك عبر الاقتصاد الريعي كشركات الخليوي التي يسيطر عليها رامي مخلوف والاستثمارات الكبيرة والسياحية والسماح باستيراد السيارات الذي أشبع رغبة السوريين المحرومين من السيارات الحديثة. لكن وبالرغم من أن دخول النفط في الميزانية بأرقام غير شفافة أدى لانتعاش اقتصادي ملحوظ نسبياً ارتفع دخل الموظف قبيل الثورة إلى 100 دولار لكن ذلك لم يحل مشكلة البطالة المتزايدة مما دفع الشباب للهجرة أو إنشاء مشاريع صغيرة لتأمين معيشتهم.



12 عاماً على الثورة".. احتفالات في الشمال السوري والعالم الافتراضي |  Irfaasawtak

(Credits: مظاهرة في مدينة إعزاز بريف حلب رفضاً لحضور بشار الأسد القمة العربية في أيار 2023)

اندلاع الثورة وإصلاحات مزعومة

اندلعت الثورة السورية نتيجة لتراكم المشاكل الاقتصادية والاستبداد. سارع النظام بزيادة رواتب الموظفين 30% وادعى رامي مخلوف اعتزاله العمل الاقتصادي للأعمال الخيرية. كان لدى المصرف المركزي 16 مليار دولار وديون سوريا كانت 12 مليار دولار للاتحاد السوفيتي سابقاً (روسيا حالياً) إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتهدئة الشارع الغاضب أو معالجة جذور الأزمة الاقتصادية المتفاقمة فبينما كان النظام يحاول احتواء الشارع السوري الغاضب عبر شراء ولاءات مؤقتة بزيادات مالية محدودة ووعود بالإصلاح الشفاف وإعادة كتابة الدستور للقيام بالإصلاحات السياسية والانتخابات فقد كانت شبكات الفساد تستمر في استنزاف موارد البلاد وتعمقت حالة عدم الثقة بين المواطنين والحكومة.

ومع استمرار الاحتجاجات وتوسع رقعة الصراع، بدأت احتياطيات المصرف المركزي تتناقص تدريجياً ليس فقط بسبب الإنفاق على قمع الثورة بل أيضاً نتيجة لهروب رؤوس الأموال وتوقف تدفق الاستثمارات الأجنبية, كما أن الديون المستحقة لروسيا, والتي كانت تعتبر قديمة, بدأت تكتسب أهمية متزايدة في ظل تدهور الوضع الاقتصادي واعتماد النظام على الدعم الروسي المتزايد والذي لم يكن مجانياً بطبيعة الحال بل جاء بشروط ومصالح اقتصادية طويلة الأمد.

تجلت في سعي روسيا لتأمينِ موطئِ قدم راسخ لها في الاقتصادِ السوري المُنهك فمقابل الدعم العسكري والسياسي سعت موسكو لضمانِ عقود استثمارية مربحة في قطاعاتٍ استراتيجية كالطاقة والموانئ وإعادة الإعمارِ بشكل إحتكاري لها مما رسخ تبعية اقتصادية لسوريا تجاه حليفها الروسي ولم يقتصر الأمر على ذلكَ بل امتد ليشمل تسهيلات تجارية تخدم المصالح الروسيةَ وتعزز من وجودها في السوق السورية على حساب قوى أخرى وهكذا أصبحت الديون السورية لروسيا, والتي تضخمت مع استمرار قمع الثورة والحرب, ورقة ضغط إضافية في يد موسكو لضمان تحقيق تلك المصالح الاقتصادية على المدى الطويل.

استهلك النظام الأموال في الحرب ضد السوريين وقد بدت آثار ذلك على الاقتصاد السوري لا سيما بعد خروج مناطق النفط عن سيطرته وكذلك العقوبات التي طالته نتيجة الإمعان بقتل السوريين وتوقف غالبية المنافذ الحدودية عن العمل, ولحل تلك المعضلة الاقتصادية فقد دخلت إيران داعمة له في حربه ضد السوريين وقدمت دعماً كبيراً لآلة القتل, فعلى سبيل المثال قدمت إيران المساعدات الاقتصادية منذ بدء الثورة السورية على شكل قروض حيث قدمت في عام 2012 قرضاً بمليار دولار ثم 3.6 مليار دولار في عام 2013.

كذلك قام النظام بتوقيع اتفاقات اقتصادية مع إيران وروسيا تجعل من سوريا بلداً مديناً لعشرات السنوات وقد طبع كميات ضخمة من العملة السورية في موسكو — بعد توقف طبع العملة السورية في النمسا بسبب العقوبات المفروضة على النظام — ما أدى لتضخم هائل فيها حيث وصل سعر الليرة مقابل الدولار من 45 ليرة قبيل الثورة إلى حدود 16.000 ليرة سورية قبيل سقوط النظام, وبذلك تراجعت القوة الشرائية للسوريين وتضاءلت قيمة الرواتب والأجور إلى حد لم تعد تكفي لتمويل تكاليف المواصلات اليومية للأعمال على مستوى 3 أيام لا أكثر.

شهدت الميزانية السورية تدهوراً كارثياً حيث انخفضت من 17 مليار دولار عام 2011 إلى 5 مليارات عام 2019 ذهب معظمها للجيش والأمن والشبيحة. هذا المبلغ بالكاد يكفي لتغطية رواتب مليوني موظف في ظل انهيار كامل للقطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة.

اعترف وزير مالية النظام بعجز قدره 946 مليار ليرة عام 2019 لكنه قدم تبريراً ساذجاً للعجز أنه أنه دليل قوة الدولة وقدرتها على تلبية متطلبات الصمود وتقديم الخدمات والدعم, هذا التبرير يتناقض مع الواقع المرير حيث تزامن هذا العجز مع بروز أسماء جديدة للقطط السمان وتجار الحروب والأزمات بينما يعيش غالبية السوريين (85% تحت خط الفقر) على وجبة واحدة في اليوم ويبحث الكثيرون عن الطعام في القمامة، في حين ينعم قلة قليلة بثراء فاحش.



بشار الأسد يصدر تشكيلات عسكرية وامنية كبيرة (أسماء) | مدار الساعة

(Credits: بشار الأسد يشرف على على مشروع تكتيكي للجيش السوري بتاريخ 2008-09-23)

كيف أثرت حرب الأسد على ثورة السوريين واقتصادهم؟

لقد كان لحرب نظام الأسد على السوريين والاقتصاد السوري تأثير مدمر وشامل تجلى في جوانب متعددة ومتداخلة, فمن الناحية الاقتصادية فقد شهدت البلاد انهياراً غير مسبوق لليرة السورية وتبخر الاحتياطيات في البنك المركزي وجملة عقوبات دولية على النظام الاقتصادي ككل بسبب استغلاله من قبل النظام وبسبب تعطل عملية الإنتاج المحلي وعرقلتها اقتصادياً وسياسياً وحتى قانونياً, حيث تقلص الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير وتوقفت معظم القطاعات الإنتاجية عن العمل أو تدهورت بشدة مما فاقم من أزمة العملة وارتفاع الأسعار الجنوني الذي أفقر غالبية السكان.

أما على صعيد معيشة الأفراد، فقد انحدر مستوى دخل السوريين إلى أدنى مستوياته فبعد أن كان متوسط الدخل الشهري هزيلاً بالفعل قبل الثورة فقد تضاعفت معدلات الفقر والبطالة بشكل كارثي حيث فقد الملايين وظائفهم ومصادر رزقهم وأصبح الحصول على الضروريات الأساسية كالغذاء والدواء والوقود تحدياً يومياً يواجه معظم الأسر, ونتيجة لتدمير البنية التحتية بما في ذلك المصانع والمزارع وشبكات النقل فقد تعطلت دورة الإنتاج والاستهلاك مما أدى إلى شح في السلع وارتفاع تكاليفها, هذا بالإضافة إلى اصطلاح "الترفيق" والأتاوات على مداخل المدن من قبل جنود جيش النظام بحيث يتم تحصيل مبالغ مالية مرتفعة مقابل السماح للشاحنات والبضائع — القليلة أصلاً — بالدخول إلى المدن, بحيث تعود هذه العوائد المالية إلى فرق جيش النظام وميليشياته أبرزها "الفرقة الرابعة" التي يقودها ماهر الأسد, شقيق بشار الأسد, شخصياً.

لقد تبنى نظام الأسد، بشكل ممنهج وغير مباشر، استراتيجية تهدف إلى تفريغ المدن السورية من فئة الشباب التي كانت الوقود الأساسي للحراك الثوري ضده. أحد أبرز أدوات هذه الاستراتيجية كان التهديد المستمر بالتجنيد الإجباري في جيشه فمع استمرار الصراع وتزايد خسائر قوات النظام لجأ إلى تكيثف حملات التجنيد العشوائية التي لم تستثنِ حتى طلاب الجامعات أو المعيلين الوحيدين لأسرهم (على الرغم من أن هاتين الحالتين يستثنون مؤقتاً أو دائماً من التجنيد إلا أن الحالات التعسفية لم تكن ذو طابع رقابي تحد من ذلك), إلى جانب المستوى المعيشي المنحدر وانقطاع التيار الكهربائي والماء لفترات تصل إلى أسابيع. جميع هذه الأمور بالإضافة إلى الخوف الدائم من سوق الشباب إلى الخدمة العسكرية القسرية التي غالباً ما كانت تعني الزج بهم في معارك عبثية أو إجبارهم على ارتكاب جرائم أو ابتزازهم وتهديد من يفكر بالانشقاق, دفع أعداداً هائلة من الشباب إلى البحث عن ملاذ آمن خارج حدود البلاد.

بالتوازي مع ذلك، مارست أجهزة الأمن التابعة للنظام سياسة اعتقالات عشوائية واسعة النطاق في الشوارع وعلى الحواجز المنتشرة في المدن, لم يكن الهدف من هذه الاعتقالات دائماً ملاحقة ناشطين أو معارضين سياسيين بشكل مباشر بل بث الرعب والخوف في صفوف الشباب بشكل خاص, فالشاب السوري كان يخشى الخروج من منزله خشية أن يتم توقيفه بشكل تعسفي ليقضي أياماً أو شهوراً في زنزانات مظلمة دون أي تهمة واضحة أو في أسوأ الأحوال سوقه إلى ثكنات التجنيد الإجباري. هذه البيئة القمعية الخانقة قوضت أي شعور بالأمان أو الاستقرار ودفعت الشباب اليائس إلى المغامرة بحياته عبر طرق التهريب بحثاً عن مستقبل أفضل في الخارج.

إن هذا الدفع غير المباشر للشباب نحو الهجرة واللجوء لم يكن مجرد نتيجة ثانوية للصراع بل كان جزءاً من خطة أوسع تهدف إلى إضعاف القاعدة الاجتماعية للحراك الثوري فالنظام كان يدرك جيداً أن استمرار الزخم السكاني الشاب في المدن يمثل تهديداً له باستمرار الحراك الثوري ضده, فمن خلال تفريغ هذه المدن من طاقتها الشبابية والسكانية كان النظام يسعى إلى إخماد أي شرارة احتجاج محتملة وتقويض أي محاولة لإعادة إحياء الثورة في المستقبل. لقد كانت استراتيجية خبيثة تهدف إلى تحقيق مكاسب أمنية وسياسية على المدى القصير على حساب مستقبل سوريا ومواردها البشرية الشابة.



عن سورية الغائبة عن تقرير مصيرها

(Credits: عن غياب الأفكار الجامعة ميشيل كيلو العربي الجديد)

تأثير تفكك الدولة: فرصة للاستغلال لا مصدر للأسى

لم يكن فقدان نظام الأسد السيطرة على مناطق واسعة من الأراضي السورية، وخاصة تلك الغنية بالموارد الطبيعية والزراعية، مصدر أسى أو قلق حقيقي للنظام بقدر ما كان فرصة جديدة للاستغلال وتعزيز سلطة المقربين منه فبدلاً من أن يكترث النظام لتمويل الدولة عبر الضرائب أو إدارة مركزية رشيدة للموارد فقد كان جل اهتمامه منصباً على كيفية استغلال هذا الفراغ الأمني والاقتصادي لنهب ما تبقى من ثروات البلاد, فخروج مناطق شرق الفرات الغنية بالنفط والغاز عن سيطرته لم يمنعه من إقامة شبكات تهريب مع قسد وتنظيم داعش عبر سماسرة مما أثرى حاشيته بشكل فاحش على حساب السوريين. وبالمثل، فإن فقدان السيطرة على مناطق زراعية لم يدفعه لتحسين الإنتاج في المناطق المتبقية.

إن تفكك الدولة لم يكن عائقاً أمام النظام بل كان ساحة جديدة لتوسيع شبكات فساده واستغلال معاناة السوريين لتحقيق مكاسب شخصية وعائلية ضارباً عرض الحائط أي وعود جوفاء بالإصلاح أو الاهتمام برفاهية السوريين الذي كان هو نفسه سبب تهجيره ومعاناته. لقد تجاوز نظام الأسد مرحلة الدولة الفاشلة ليتحول إلى دولة مافيا بامتياز حيث تخلّى عن أبسط مهامه الأساسية في رعاية مواطنيه وتأمين احتياجاتهم فقد أصبح جل اهتمامه منصبّاً على جني الأموال بأي طريقة ممكنة غير آبهٍ بالوسائل المشروعة أو الأخلاقية.

فمن نهب المساعدات الإنسانية وبيعها في الأسواق السوداء، إلى فرض الإتاوات على حركة البضائع والأفراد، مروراً بالاتجار بالمخدرات وتسهيل عمليات التهريب، لم يتورع النظام عن أي نشاط يدر عليه أرباحاً طائلة حتى ملف "الكبتاغون" المخدر الذي ينتشر إنتاجه وتجارته في مناطق سيطرته أصبح أداة غير مباشرة للضغط على دول عربية وأوروبية مستفيداً من حالة الفوضى الأمنية لتوسيع نطاق هذه التجارة غير المشروعة كورقة ابتزاز خفية.

لم يقتصر الابتزاز السياسي الذي مارسه نظام الأسد على السوريين فحسب بل امتد ليشمل الدول المجاورة والدول الإقليمية مستغلاً أدوات مختلفة لتحقيق أهدافه, فملف اللاجئين السوريين، الذي نشأ نتيجة لسياسات القمع والعنف التي مارسها النظام، تحول إلى ورقة ضغط على دول الجوار التي استضافتهم، حيث لوّح النظام ضمنياً بإمكانية تدفق المزيد من اللاجئين أو عرقلة عودتهم للمطالبة بتنازلات سياسية أو مساعدات مالية أو حتى رفع العقوبات عنه, واستغل النظام حالة عدم الاستقرار الأمني والقتال المستمر في سوريا كأداة لابتزاز دول المنطقة عبر التلويح بإمكانية تحالفه مع قوى إقليمية منافسة لتلك الدول خاصةً دول الخليج العربي وإيران وإسرائيل وتركيا والأردن.



إيكونوميست: الثورة السورية غيرت أسماء الأسد وجعلتها قوية وطموحة وأنهت  منافسيها

(Credits: سلسلة زوجات المستبدين.. أسماء الأسد وردة الصحراء الضارة‎ الجزيرة)

سيدة "المكتب السري" و "فرع الخطيب"

في قلب دمشق وبعيداً عن أعين الرأي العام, يقع مكتب سري كانت تقوده مباشرة أسماء الأخرس زوجة بشار الأسد, هذا الكيان الخفي يمثل ذراعاً قوية في بسط النفوذ الاقتصادي والمالي لعائلة الأسد على سوريا, ولتحقيق هذه الغاية، يتم استخدام فرع الخطيب الأمني سيئ السمعة كأداة قمع وابتزاز فعالة.

يعمل هذا المكتب السري كمركز قيادة للسيطرة على شرايين الاقتصاد السوري حيث تُفرض أتاوات باهظة على التجار ورجال الأعمال دون حسيب أو رقيب. أولئك الذين يجرؤون على التردد أو الرفض يجدون أنفسهم خلف قضبان فرع الخطيب حيث يُمارس عليهم ضغط هائل، يصل إلى حد التعذيب لإجبارهم على دفع مبالغ طائلة أو تقديم تنازلات قسرية.

لا يقتصر دور هذا المكتب على الابتزاز المالي المباشر بل يمتد ليشمل بناء شبكة واسعة من المحاسيب والوكلاء الذين يسهلون سيطرة عائلة الأسد على القطاعات الاقتصادية الحيوية في البلاد. من خلال هذه الشبكة، يتم توجيه الاستثمارات والصفقات الكبرى نحو الشركات والأفراد المقربين من النظام مما يضمن تدفق الثروات بشكل مستمر إلى خزائنهم الخاصة.

يُعد استخدام فرع الخطيب الأمني في هذه العمليات دليلاً قاطعاً على الطبيعة القمعية والمافيوية لهذا النظام فبدلاً من تطبيق القانون وحماية حقوق المواطنين يتم تسخير الأجهزة الأمنية لخدمة المصالح الشخصية الضيقة لعائلة الأسد وحاشيتها, ويُشكل هذا الاستغلال الصارخ للسلطة عقبة كأداء أمام أي محاولة لإصلاح اقتصادي حقيقي أو بناء دولة قانون في سوريا.

إن الهدف الأساسي من وراء هذه العمليات السرية واضح: تأمين تدفق مستمر للموارد المالية إلى النظام خاصة في ظل العقوبات الاقتصادية الدولية التي تخنق الاقتصاد السوري كما يهدف إلى تعزيز قبضة عائلة الأسد على مفاصل الاقتصاد وتوسيع نفوذها المالي بشكل يضمن بقاءها واستمراريتها في السلطة لأطول فترة ممكنة. لقد أصبح هذا المكتب السري وفرع الخطيب وجهين لعملة واحدة بيد أسماء الأخرس, عملة قوامها الفساد والاستغلال والقمع، وهي العملة التي يتعامل بها نظام الأسد مع شعبه وموارده.



بحجة الحد من تدفق اللاجئين.. حزب ألماني يطالب برفع العقوبات عن النظام السوري


السوريين في الخارج, لا مفر من حكم الأسد

لم يكتفِ النظام السوري بتصدير خوفه وقمعِه إلى داخل البلاد بل امتدت أذرعه إلى خارج الحدود حتى دول اللجوء والنزوح والمهجر مستهدفًا السوريين الذين وجدوا ملاذاً آمناً لهم, فالسفارات والقنصليات بطبيعة الحال التي كان من المفترض أن تكون ملاذاً آمناً لكل مغترب في الخارج فقد تحولت إلى أدوات قمع وابتزاز بيد النظام السوري تُستخدم لإذلالهم واستغلالهم.

كانت عملية استخراج الأوراق الرسمية وجوازات السفر، وهي حق أساسي لكل مواطن، تتحول إلى كابوس بيروقراطي طويل ومكلف إذ كان السوريون يُجبرون على دفع رسوم باهظة، تفوق بكثير الرسوم المعتادة مقابل الحصول على وثائقهم, وبطبيعة الحال مع النظام السوري فإن الرشوة والمحسوبيات هي ركيزة وعقيدة أساسية يعمل بها النظام فحتى لكي تحصل على دور في طابور الدور الدخول إلى القنصلية فيستوجب أن تدفع مبلغاً إلى جهة تكون سمساراً ووسيطاً تعمل بإشراف الطاقم القنصلي, وغالباً ما كانوا ينتظرون شهوراً طويلة لإتمام المعاملات مما يعطل حياتهم ويُعرقل اندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة.

لم يقتصر الأمر على ذلك بل كانت السفارات والقنصليات بمثابة بؤر للتشبيح والمراقبة حيث كان موظفو النظام يجمعون المعلومات عن السوريين في الخارج ويراقبون تحركاتهم ويكتبون تقارير عن أنشطتهم السياسية والاجتماعية وكانت هذه التقارير تُستخدم لابتزازهم وتهديدهم إما مباشرة أو عبر ذويهم الذين بقوا داخل سوريا.

كان النظام يدرك جيداً أن العديد من السوريين في الخارج يعتمدون على تحويلات مالية من أقاربهم في الداخل ويخشون على سلامة ذويهم الذين بقوا تحت سيطرة النظام فكان يستغل هذه النقاط الضعيفة لابتزازهم وإجبارهم على دفع مبالغ مالية أو التوقف عن أي نشاط معارض, حتى أن سياسات النظام المالية المتمثلة في رفع أسعار المواد الأساسية لمعيشة الأسرة وتدني الرواتب والأجور كانت تتمثل بفكرة "دعوا أقاربكم يرسلون لكم المال شهرياً لتعيشوا".



مستقبل سوريا بظل العلاقات الروسية الإيرانية - السؤال الآن


الدعم الروسي والإيراني وتكلفته الباهظة

لقد كان الدعم الروسي والإيراني حجر الزاوية في صمود نظام الأسد خلال سنوات الثورة السورية إلا أن هذا لم يكن مجانياً بل جاء مصحوباً بتكاليف اقتصادية وسياسية بعيدة المدى, فمنذ اللحظات الأولى للانتفاضة الشعبية قدمت طهران وموسكو دعماً عسكرياً ولوجستياً واستخباراتياً حاسماً للنظام السوري مما مكنه من قمع الاحتجاجات والتصدي للجماعات المعارضة المسلحة, ومع استمرار الصراع وتصاعد التدخل الإقليمي والدولي تعزز هذا التحالف الاستراتيجي وأصبح أكثر عمقاً وتشابكاً.

على الصعيد الاقتصادي, قدمت إيران خطوط ائتمان وقروضاً ميسرة للنظام السوري بالإضافة إلى إمدادات النفط والمشتقات النفطية بأسعار تفضيلية كما استثمرت شركات إيرانية في قطاعات مختلفة من الاقتصاد السوري مثل الطاقة والاتصالات والعقارات. أما روسيا، فقد قدمت دعماً أقل مباشرةً على الصعيد المالي لكنها لعبت دوراً حاسماً في حماية النظام من العقوبات الدولية في مجلس الأمن ووقفت في وجه أي محاولة لفرض عزلة دولية عليه فلطالما استعملت روسيا والصين حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن لعرقلة أي مشروع قرار يخص الشأن السوري.

إلا أن هذا الدعم السخي كان له ثمن باهظ على المدى الطويل فقد أدى اعتماد النظام المتزايد على حلفائه إلى استنزاف موارد البلاد وتعميق تبعيتها الاقتصادية لطهران وموسكو, فمقابل الدعم العسكري والسياسي سعت روسيا وإيران إلى تأمين عقود استثمارية مربحة في قطاعات استراتيجية كالطاقة والموانئ وإعادة الإعمار مما رسخ تبعية اقتصادية لسوريا تجاههما, كما أن الديون المتراكمة على النظام السوري لهذين الحليفين أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد المنهك استنزفت جزءاً كبيراً من موارد البلاد ناهيك عن رهنها واحتكارها بيد طهران وموسكو عبر اتفاقيات ومشاريع حصرية لهما.

بالإضافة إلى ذلك فإن النفوذ المتزايد لإيران وروسيا في سوريا أثار مخاوف إقليمية ودولية وعقد من عملية التسوية السياسية الشاملة فقد سعت كل من طهران وموسكو إلى تحقيق مصالحهما الخاصة في سوريا والتي لا تتوافق مع مصلحة السوريين وسيادة البلاد وبالتالي فإن الدعم الذي قدمه هذان الحليفان للنظام — وإن كان ضرورياً لبقائه — إلا أنه جاء على حساب استقلال سوريا الاقتصادي والسياسي على المدى الطويل.

علاوة على ذلك استغل نظام الأسد العقوبات الدولية بشكل خبيث لتفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا, فبينما كانت القيود المفروضة على القطاع المالي والتجاري تعيق تدفق المساعدات الإنسانية فقد كان النظام يحتكر وصول هذه المساعدات ويستفيد منها بشكل حصري, فقد عمد إلى بيع ونهب وسرقة كميات كبيرة من المساعدات التي كان من المفترض أن تصل إلى المدنيين المحتاجين، ولم يقم بتوزيعها عليهم. بل على العكس من ذلك، كان النظام يخلق حالة من الشح المتعمد في السلع الأساسية، مما يضطر السوريين إلى شرائها بأسعار مضاعفة، ويجعلهم يعتمدون على شبكات الفساد التابعة له للحصول على أبسط مقومات الحياة, وفي الوقت نفسه كان النظام يتباكى دولياً مدعياً أن العقوبات هي السبب الرئيسي لمعاناة السوريين وعرقلة وصول المساعدات إليهم، في محاولة لتضليل الرأي العام الدولي وكسب تعاطف زائف، بينما كان هو المستفيد الأكبر من هذه الأزمة الإنسانية التي ساهم في خلقها وتعميقها.

لقد تجاوز الدعم الروسي والإيراني لنظام الأسد مجرد المساعدات العسكرية والسياسية ليصبح عاملاً حاسماً في تشكيل المشهد الاقتصادي السوري المدمر فبينما قدمت إيران خطوط ائتمان وإمدادات نفطية حيوية للنظام في أوج الأزمة فقد كانت روسيا تعمل على ترسيخ نفوذها الاقتصادي عبر بوابة الديون والعقود المستقبلية. لم يكن هذا الدعم مجانياً بالطبع بل جاء مصحوباً بأجندات اقتصادية واستراتيجية بعيدة المدى, فقد سَعَت إيران لتأمين موطئ قدم لها في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والاتصالات بينما ركزت روسيا على الحصول على عقود حصرية في إعادة الإعمار والموانئ بالإضافة إلى استغلال حاجة سوريا للقمح كسلاح اقتصادي في بعض الأحيان. هذا التنافس الضمني بين الحليفين، وإن بدا في ظاهره دعماً موحداً للنظام، كان له تأثير عميق على مسار الاقتصاد السوري حيث أثقل كاهله بالديون ووجه موارده نحو خدمة مصالح خارجية في كثير من الأحيان حتى أصبح غارقاً في وحل الإفلاس شبه التام.



https://www.syria.tv/sites/default/files/2022-07/291485775_410539081112411_8020644722879760888_n.jpg

(Credits: الأسد وعائلته في زيارة إلى أحياء مدينة حلب القديمة في عيد الأضحى 09-07-2022)

أنا, ومن بعدي الطوفان: فلسفة عائلة الأسد في حكم سوريا

في خضم كارثة زلزال شباط 2023 الذي ضرب تركيا وسوريا، تجلى بوضوح كيف كان نظام الأسد يستغل معاناة السوريين حتى في أحلك الظروف فبينما تدفقت المساعدات الدولية إلى المناطق المتضررة في سوريا، وخاصة الشمال الغربي الخارج عن سيطرة النظام، كانت الحقائق تشير إلى أن النظام ببساطة كان يقوم بسرقتها وبيعها على الرغم من أن هذه المساعدات كانت مجانية ومدعومة دولياً إلا أن النظام عمد إلى مصادرتها وتحويلها إلى أسواق سوداء يديرها مقربون منه حيث كان يتم بيعها للمحتاجين بأسعار باهظة. لقد كانت عملية نهب وقحة لموارد كان من المفترض أن تخفف من وطأة الكارثة على السوريين المنكوبين، مما يظهر استغلال النظام حتى لأكثر الظروف الإنسانية قسوة لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة.

لم يتورع النظام عن استخدام هذه الكارثة الإنسانية كورقة ضغط سياسي. فبينما كان العالم يتعاطف مع الضحايا ويسعى لتقديم العون، كان النظام يصر على ضرورة مرور جميع المساعدات عبر دمشق محاولاً بذلك فرض سيادته على المناطق الخارجة عن سيطرته وإظهار نفسه كطرف لا يمكن تجاوزه في أي عملية إغاثة أو إعادة إعمار مستقبلية. هذا النهج البراغماتي والانتهازي أثار غضب واستياء العديد من المنظمات الدولية والعاملين في المجال الإنساني، الذين وجدوا أن جهودهم لتقديم المساعدة العاجلة للمحتاجين تُعرقَل بفعل سياسات النظام.

علاوة على ذلك، وفي سياق تلاعبه المعتاد بالحقائق، حاول النظام تصوير العقوبات الدولية المفروضة عليه كعائق رئيسي أمام وصول المساعدات إلى المتضررين من الزلزال. وبينما كان تأثير العقوبات على الاقتصاد السوري واضحاً إلا أن التقارير تشير إلى أن النظام كان يمتلك القدرة على تسهيل وصول المساعدات وتوزيعها إذا كانت لديه الإرادة الحقيقية لذلك لكن أولويته القصوى بقيت دائماً هي تعزيز سلطته ونفوذه حتى على حساب معاناة شعبه الذي فقد الآلاف من أبنائه ومنازله في هذه الكارثة الطبيعية المروعة.

استغل نظام الأسد كارثة زلزال شباط 2023 لتحقيق مكاسب سياسية ساعياً إلى إعادة تأهيل صورته عربياً وإقليمياً ودولياً ففي أعقاب الزلزال، كثف النظام اتصالاته الدبلوماسية مع دول عربية وإقليمية مقدماً نفسه كطرف أساسي في عمليات الإغاثة وإعادة الإعمار داعياً الدول إلى رفع العقوبات للعمل على ذلك. وجدت بعض الدول العربية والإقليمية في هذه الكارثة فرصة لإعادة تقييم علاقاتها مع النظام في ظل غياب حل سياسي شامل للأزمة السورية. استغل النظام هذا التوجه لفتح قنوات حوار جديدة، على أمل تحقيق انفراجة في علاقاته الخارجية. لكن هذه المحاولات قوبلت بانتقادات حيث رأى مراقبون أن النظام يسعى إلى استغلال معاناة السوريين دون تقديم تنازلات حقيقية. كما رفضت بعض الدول والمنظمات الدولية ربط المساعدات الإنسانية بالتطبيع السياسي خاصةً عند الحديث عن الانتقال السياسي في سوريا في إطار مشروع قرار الأمم المتحدة 2254 والقرار 2118.



العقوبات والاقتصاد السوري.. هل ينقذ سقوط النظام ما تبقى؟

(Credits: العقوبات والاقتصاد السوري.. هل ينقذ سقوط النظام ما تبقى؟‎)

العالم يعاقب نظام الأسد, والأسد يعاقب كل السوريين!

على الرغم من أن حقول النفط السورية الرئيسية كانت متمركزة في منطقة شرق الفرات الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي منذ عام 2014, إلا أن نظام الأسد لم يتوانَ عن استغلال هذه الثروة لتمويل حربه فبدلاً من الوصول المباشر إلى هذه الحقول، اعتمد النظام على شبكات من السماسرة المقربين — وعلى رأسهم حسام القاطرجي — الذي لعب دوراً محورياً في شراء النفط من مصادر متعددة، بما في ذلك مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في فترات سابقة. تشير التقارير إلى أن شركات القاطرجي كانت مسؤولة عن تزويد مناطق النظام بالنفط والقمح القادم من مناطق سيطرة داعش مروراً بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية, وقد فرضت عليه عقوبات أوروبية وأمريكية لدوره في تسهيل التجارة مع النظام.

كان هؤلاء السماسرة يشترون النفط بأسعار متدنية ثم يبيعونه للنظام بأسعار مضاعفة محققين بذلك ثروات طائلة على حساب السوريين ومواردهم, وقد ترافق ذلك مع عمليات تهريب واسعة النطاق وفرض "ترفيق" (إتاوات) على حركة الشاحنات والسيارات، مما أثرى المقربين من النظام وأرهق الاقتصاد المنهك.

إلى جانب ذلك، كانت إيران تلعب دوراً مزدوجاً في ملف النفط فبينما كانت تقدم بعض الإمدادات النفطية للنظام إلا أنها كانت تبيع النفط بأسعار مرتفعة وبعقود آجلة مستغلة حاجة النظام الماسة للطاقة, وكانت طهران تستخدم هذه الإمدادات كورقة ضغط على الأسد تبتزه بها عندما تراه يميل نحو التقارب مع الدول العربية أو روسيا على حساب مصالحها. هذا الابتزاز النفطي الإيراني زاد من الأعباء الاقتصادية على النظام وأضعف قدرته على توفير الطاقة مما فاقم من المعاناة المعيشية.

تشير التقديرات إلى أن إيران كانت تزود النظام بما بين 60,000 إلى 70,000 برميل يومياً من النفط الخام, وقد أدت هذه الظروف المعقدة إلى خلق سوق سوداء نشطة للنفط في سوريا والمنطقة فمع العقوبات الدولية التي تحد من واردات النفط الرسمية والسيطرة المتفاوتة على حقول الإنتاج فقد ازدهرت عمليات التهريب عبر الحدود مع دول الجوار مثل لبنان والعراق وتركيا وقد شاركت في هذه العمليات شبكات متنوعة من الأفراد والجماعات، بما في ذلك فصائل مسلحة وتجار محليون ومقربون من النظام مستفيدين من فروق الأسعار والحاجة الماسة للوقود في الداخل السوري, وقد ساهمت هذه التجارة غير المشروعة في إثراء بعض الأطراف وإدامة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي.

لم يقتصر ابتزاز إيران لنظام الأسد على ملف الطاقة وحدها فحسب, بل امتد ليشمل واردات القمح الروسي الحيوي لسوريا فبعد أن تدهور الإنتاج المحلي للقمح بشكل كبير نتيجة للحرب والجفاف فقد أصبحت سوريا تعتمد بشكل متزايد على روسيا لتأمين هذه السلعة الأساسية وقد استغلت موسكو هذه الحاجة الماسة لفرض شروطها ومصالحها على دمشق. تشير التقارير إلى أن روسيا أصبحت المورد الرئيسي للقمح إلى سوريا منذ عام 2017 حيث وصلت الكميات المستوردة إلى ما بين 1.2 و 1.5 مليون طن سنوياً وقد تم توقيع اتفاقيات طويلة الأمد بين البلدين لتوريد هذه الكميات إلا أن هذه الاتفاقيات لم تخلُ من عمليات ابتزاز ضمنية وعلنية ففي أوقات التوتر السياسي أو عندما كانت موسكو ترى فتوراً من جانب دمشق في تبني مواقف تخدم مصالحها, كانت روسيا تلجأ إلى تأخير شحنات القمح أو رفع أسعارها بشكل غير مبرر مما كان يهدد بحدوث أزمات خبز في مناطق سيطرة النظام ويزيد من معاناة السكان.



إيران في دمشق

(Credits: من أحد أحياء العاصمة دمشق تظهر فيها شعارات شيعية من إيران والعراق ولبنان)

مليارات إيران في مهب الريح: مستقبل غامض بعد سقوط الأسد

لم تكن الاستثمارات الإيرانية في سوريا، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، تهدف بالضرورة إلى تحقيق أرباح سريعة بل كانت جزءاً من استراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة. صحيح أن العديد من هذه الاستثمارات لم تدر أرباحاً كبيرة لإيران إلا أن الهدف الأهم كان التواجد الاستراتيجي طويل الأجل والسيطرة على أصول وموارد رئيسية. فإيران، على سبيل المثال، استثمرت بكثافة في قطاعات مثل النفط والغاز والفوسفات وصناعة السيارات والطاقة والبنية التحتية واستغلال مناجم الفوسفات، إلا أن العديد من هذه الاستثمارات تواجه خطر التوقف أو المصادرة خاصة في ظل سعي الحكومة السورية الجديدة إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية وتقليل اعتمادها على طهران، فإيران تخشى من فقدان نفوذها الاستراتيجي والاقتصادي في سوريا وقد تجد نفسها غير قادرة على استعادة أموالها واستثماراتها.

ومع ذلك، فإن سقوط نظام الأسد يضع مستقبل هذه الاستثمارات في مهب الريح فبينما تسعى إيران جاهدة للحفاظ على نفوذها في سوريا إلا أن الحكومة السورية الجديدة قد تسعى إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية وتقليل اعتمادها على طهران وقد يؤدي ذلك إلى مصادرة بعض الاستثمارات الإيرانية أو فرض قيود عليها أو حتى إلغاء العقود المبرمة مع شركات إيرانية، كما أن أي حكومة سورية جديدة ستواجه ضغوطاً دولية لتقليل النفوذ الإيراني في البلاد مما يزيد من المخاطر التي تواجه الاستثمارات الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، وكما ذكر الأستاذ كرم شعار، فإن الحكومة السورية الجديدة قد تطالب إيران بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد السوري خلال فترة دعمها للنظام بل وحتى تعويضات عن الخسائر البشرية مما يزيد من تعقيد العلاقات الاقتصادية بين البلدين.



https://www.datocms-assets.com/36798/1733750431-gettyimages-2187906706-edited-edited-edited.png?crop=focalpoint&fit=crop&h=478&w=850

(Credits: صورة لبشار الأسد ممزقة على واجهة مبنى محافظة حماة)

السقوط المدوي: حين ينهار عرش مبني على الرمال الاقتصادية

في نهاية المطاف، لم يكن سقوط نظام الأسد في دمشق مجرد نتيجة لانتصار عسكري بل تتويج لانهيار اقتصادي ممنهج قوامه الفساد المستشري والاستغلال الوحشي للموارد والاعتماد المفرط على دعم خارجي مشروط. لقد تحول النظام، الذي كان يتباهى يوماً بقوته وصلابته، إلى كيان مافياوي يستغل معاناة شعبه لتحقيق مكاسب شخصية ويراهن على دعم حلفائه للبقاء على قيد الحياة. لقد أثبتت سنوات الحرب أن أي نظام اقتصادي مبني على النهب والابتزاز والفساد، مهما بدا قوياً في الظاهر، محكوم عليه بالفشل والانهيار. لقد دفع السوريون ثمناً باهظاً لهذه السياسات المدمرة وسيستغرق التعافي من آثارها أجيالًا قادمة. أما النظام، فقد ترك وراءه تركة ثقيلة من الديون والخراب وقصة ستظل شاهدة على كيف يمكن لجشع السلطة أن يدمر اقتصاداً ومجتمعاً بأكمله.



المصادر:

التعليقات

القائمة الرئيسية