حذف أصفار من العملة ... هل هي مجدية حقاً؟

img

حذف أصفار من العملة ... هل هي مجدية حقاً؟

تخيل أنك تحمل حقيبة مليئة بالنقود لشراء احتياجاتك اليومية، ليس لأنك تشتري الكثير، بل لأن قيمة العملة أصبحت منخفضة جداً لدرجة أنك تحتاج إلى أعداد هائلة من الأوراق النقدية لإتمام أبسط المعاملات. هذا السيناريو ليس خيالياً، بل هو واقع عاشته وتعيشه العديد من الدول حول العالم عندما تفقد عملتها الوطنية جزءاً كبيراً من قوتها الشرائية بسبب عوامل اقتصادية معقدة. يصبح التعامل بالأرقام الكبيرة جداً مرهقاً ومربكاً، سواء في عمليات البيع والشراء اليومية، أو في تسجيل الحسابات المالية للشركات والمؤسسات، وحتى على مستوى الإحصاءات الوطنية.

هنا تبدأ التساؤلات تطرح نفسها: هل هناك حل لهذه المشكلة؟ وكيف يمكن لدولة أن تستعيد لعملتها هيبتها وتسهل التعامل بها؟

في مواجهة هذا التحدي، تلجأ بعض الدول إلى إجراء يُعرف بـ "حذف الأصفار" من العملة الوطنية. يبدو الأمر بسيطاً للوهلة الأولى، كأن تحول المليون إلى ألف، أو الألف إلى واحد، لكنه في الحقيقة قرار اقتصادي كبير يحمل في طياته أبعاداً وتأثيرات تتجاوز مجرد تبسيط الأرقام، ولهذا نطرح تساؤلات:

ما هو "حذف الأصفار" من العملة الوطنية؟
هل هو مجرد تغيير شكلي أم يحمل أبعاداً اقتصادية حقيقية؟
لماذا تلجأ الدول إلى هذه الخطوة؟ وما هي الدوافع الاقتصادية والاجتماعية وراءها؟
ما هي الفوائد الملموسة لحذف الأصفار؟ وهل تتجاوز تبسيط التعاملات اليومية؟
على الجانب الآخر، ما هي التحديات والمخاطر المحتملة لهذه السياسة؟ وهل يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية؟
كيف يؤثر حذف الأصفار على حياة الناس اليومية وقوتهم الشرائية؟
هل هو حل سحري للتضخم، أم يتطلب إصلاحات هيكلية وبيئة اقتصادية مستقرة؟
ماذا تعلمنا من تجارب دولية، مثل تركيا والبرازيل والأرجنتين، في حذف الأصفار؟ وما هي دروس النجاح والفشل؟
ما هو دور ثقة الجمهور والمستثمرين في نجاح هذه العملية؟ وهل يمكن استعادتها؟
وفي حالة خاصة مثل سوريا بعد سقوط نظام الأسد: هل حذف ثلاثة أصفار مجدٍ؟ وما هي التحديات الفريدة التي تواجه هذه الحالة؟
وأخيراً، إذا لم يكن حذف الأصفار كافياً، فما هي الإصلاحات الاقتصادية الأخرى الضرورية لسوريا لضمان استقرارها ونموها؟



Top 10 Largest Currency Redenominations In History | 2025 Edition | FXSSI -  Forex Sentiment Board

إعادة تسمية العملة الوطنية: فهم إعادة تسمية العملة الوطنية، المفهوم والآليات

تُعد إعادة تقييم العملة (Redenomination) إحدى الأدوات التي تلجأ إليها الدول في سياق مواجهة التحديات الاقتصادية وخاصة التضخم المرتفع الذي يؤدي إلى تآكل قيمة العملة وتضخم الأرقام المستخدمة في المعاملات اليومية. تشير إعادة التسمية إلى عملية تغيير القيمة الاسمية للأوراق النقدية والعملات المعدنية المتداولة، وعادة ما تتم عن طريق حذف عدد معين من الأصفار من قيمة العملة القديمة واستبدالها بعملة جديدة ذات قيمة مكافئة ولكن بأرقام أقل.

يختلف هذا الإجراء عن تخفيض قيمة العملة الذي يقلل من قوتها الشرائية أو رفع قيمتها الذي يزيدها مقارنة بالعملات الأخرى لأن هذا الأمر يحافظ على إصدارات العملة الوطنية لكن يتحكم في قوتها الشرائية لضبط ميزان التجارة (كالصين مثلاً) أو لتحسين الصادرات (كتركيا مثلاً) أو لتلبية شروط تمويلية دولية وإصلاحات اقتصادية والمحافظة على احتياطات المصرف المركزي (كمصر مثلاً) أو كطريقة من طرق التمويل بالعجز عبر طباعة كتلة نقدية وضخها في السوق لتخفيض قيمتها لتمويل المصاريف الحكومية الأساسية وتخفيض القيمة الحقيقية للرواتب والأجور أو تعويض استهلاك جزء كبير من الاحتياطات (كالعراق مثلاً).

تلجأ الدول إلى هذه الخطوة لأسباب متعددة، منها تبسيط المعاملات الحسابية وتقليل الأعباء الإدارية الناتجة عن كثرة الأصفار واستعادة الثقة في العملة الوطنية بعد فترات التضخم وإظهار بداية مرحلة من الاستقرار الاقتصادي، كما يمكن أن تساهم في تحسين صورة البلد دولياً وتعزيز مكانته الاقتصادية.

تُعرَف إعادة تسمية العملة الوطنية بأنها إجراء تقوم به الحكومات أو البنوك المركزية لتسهيل استخدام وإدارة العملة من خلال التعبير عنها بمقياس جديد وأصغر. بمعنى آخر، هي عملية حذف عدد محدد من الأصفار من العملة مما يؤدي إلى تقليل الأرقام المستخدمة في التعبير عن الأسعار والأجور والمدخرات وغيرها من القيم النقدية. يختلف هذا الإجراء عن تخفيض قيمة العملة الذي يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة وعن رفع قيمتها، الذي يزيد من قيمتها بالنسبة للعملات الأخرى.

تتضمن آلية إعادة تسمية العملة عادةً استبدال العملة القديمة بوحدة نقدية جديدة وفقاً لنسبة تحويل محددة. فعلى سبيل المثال فقد يتم تحويل مليون وحدة من العملة القديمة إلى وحدة واحدة من العملة الجديدة. تلجأ الدول إلى إعادة تسمية عملاتها لأسباب متعددة من أبرزها تبسيط المعاملات الحسابية وتقليل الأعباء الإدارية الناجمة عن كثرة الأصفار في القيم النقدية، كما يهدف هذا الإجراء إلى استعادة ثقة الجمهور في العملة الوطنية خاصةً بعد فترات طويلة من التضخم المرتفع الذي يضعف من قيمة العملة ويجعلها تبدو بلا قيمة، بالإضافة إلى ذلك قد تسعى الحكومات من خلال إعادة التسمية إلى إظهار نهاية حقبة التضخم المفرط وبداية مرحلة من الاستقرار الاقتصادي. على الصعيد الدولي يمكن أن تساهم إعادة تسمية العملة في تحسين صورة البلد وتعزيز مكانته الاقتصادية، وفي بعض الحالات يُنظر إلى هذا الإجراء على أنه محاولة من الحكومات لإعادة تأكيد سيادتها النقدية وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية في المعاملات المحلية.



Redenomination Stock Photos - Free & Royalty-Free Stock Photos from  Dreamstime

لماذا تلجأ الدول إلى حذف الأصفار؟ الدوافع والآثار المحتملة

في سعيها لمعالجة التحديات الاقتصادية، تجد العديد من الدول نفسها أمام واقع تضخم الأرقام في عملتها الوطنية مما يجعل التعاملات اليومية معقدة ومربكة. هنا يبرز سؤال جوهري: لماذا تلجأ الحكومات والبنوك المركزية إلى إجراء يبدو بسيطاً في ظاهره، وهو حذف الأصفار؟

الدافع الأساسي غالباً ما يكون تبسيط المعاملات الحسابية وتقليل الحاجة لحمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة جداً لإتمام عمليات شراء بسيطة. هذا التبسيط لا يقتصر على الأفراد فحسب بل يمتد ليشمل الأنظمة المحاسبية والمالية للشركات والمؤسسات مما يحسن من الكفاءة الإدارية ويقلل من فرص الأخطاء.

إلى جانب الجوانب الفنية واللوجستية، تحمل عملية حذف الأصفار أبعاداً نفسية واقتصادية أعمق فهي قد تساهم في استعادة الثقة بالعملة الوطنية، خاصة بعد فترات طويلة من التضخم الذي يهوي بقيمتها ويجعلها تبدو "بلا قيمة" في نظر المواطنين، كما يمكن أن يحسن هذا الإجراء من الصورة الدولية للبلد حيث أن العملات ذات الأرقام الكبيرة جداً قد تُنظر إليها كعلامة على ضعف الاقتصاد وعدم استقراره. وفي بعض الحالات، قد تكون إعادة التسمية جزءاً من محاولة الحكومة لإعادة تأكيد سيادتها النقدية وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية في المعاملات المحلية.

ومع ذلك، فإن حذف الأصفار ليس خالياً من التحديات والمخاطر. فعملية التنفيذ نفسها تتطلب تكاليف كبيرة لطباعة العملة الجديدة وتحديث الأنظمة وقد يواجه الجمهور ارتباكاً في البداية عند التعامل بالعملة الجديدة وقد يستغل بعض التجار عملية التحويل لرفع الأسعار بشكل غير مبرر، والأهم من ذلك فإن حذف الأصفار بحد ذاته لا يغير من القوة الشرائية الفعلية للعملة، وإذا لم يصاحبه إصلاحات اقتصادية حقيقية تعالج الأسباب الجذرية للتضخم فقد تكون آثاره الإيجابية مؤقتة وتعود العملة للتدهور مجدداً. لذلك، يُنظر إلى حذف الأصفار عادة كجزء من حزمة إصلاحات اقتصادية شاملة تهدف إلى تحقيق الاستقرار والنمو المستدام.

تُقدم التجارب الدولية دروساً مهمة تُظهر أن إعادة تقييم العملة تكون أكثر فعالية عند تنفيذها في ظل ظروف اقتصاد كلي مستقرة أو كنهاية لسياسات استقرار ناجحة. إنها ليست حلاً مستقلاً للتضخم أو المشاكل الاقتصادية بل يجب أن تُصاحبها إصلاحات مالية ونقدية قوية.



Redenomination Boosts Rupiah Prestige - Kompas.id

تجارب دولية وعربية في إعادة تسمية العملات

شهدت العديد من دول العالم تجارب في إعادة تسمية عملاتها الوطنية وكانت النتائج متفاوتة بين النجاح والفشل، فمن الأمثلة الناجحة دولياً نجد تجربة تركيا في عام 2005 وروسيا في عام 1998 والبرازيل في عام 1994 وبولندا في عام 1995. في المقابل، واجهت دول أخرى مثل زيمبابوي والأرجنتين وفنزويلا صعوبات في تحقيق الاستقرار الاقتصادي المستدام على الرغم من قيامها بإعادة تسمية عملاتها عدة مرات، كما أن تجربة إندونيسيا في عام 1965 لم تنجح في تحقيق الأهداف المرجوة.

على الصعيد العربي، كانت هناك محاولات أو خطط لإعادة تسمية العملات في بعض الدول بالإضافة إلى إجراءات أخرى تتعلق بإدارة قيمة العملة، فقد ناقش العراق خططاً لحذف الأصفار من الدينار العراقي في أعوام 2010 و 2011 و 2012 لكن هذه الخطط لم تُنفذ بالكامل، كما قام العراق بتخفيض قيمة الدينار في عام 2020. وفي ليبيا، جرى تخفيض قيمة الدينار في عامي 2021 و2025 في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المضطربة. أما الجزائر، فلم تشهد إعادة تسمية للعملة مؤخراً لكنها تتبع سياسات لإدارة قيمة الدينار الجزائري. وشهدت مصر أيضاً إجراءات لإدارة العملة وتخفيض قيمتها. وقد قامت دول عربية أخرى مثل السودان بإعادة تسمية عملاتها في الماضي. في المقابل، تعاني دول مثل لبنان واليمن وسوريا من ضعف عملاتها الوطنية.

فيما يلي جدول لتجارب دول عربية ودولية حول حذف الأصفار وإعادة تسمية العملة الوطنية:

الدولة السنة العملة القديمة العملة الجديدة عدد الأصفار المحذوفة النتيجة
تركيا 2005 الليرة التركية الليرة التركية الجديدة 6

نجاح في تبسيط المعاملات وتعزيز الثقة

روسيا 1998 الروبل الروسي

الروبل الروسي

3

نجاح في تبسيط الحسابات والمعاملات

البرازيل 1994 كروزيرو ريال ريال برازيلي 3

نجاح في كبح التضخم واستعادة الثقة

بولندا 1995 الزلوتي البولندي الزلوتي البولندي الجديد 4

نجاح في تحقيق الاستقرار الاقتصادي

زيمبابوي 2008 الدولار الزيمبابوي الدولار الزيمبابوي الجديد 10

فشل في السيطرة على التضخم وأدت إلى مزيد من الأزمات

الأرجنتين 1983 البيزو الأرجنتيني الأسترال الأرجنتيني 4

تضخم مستمر وأزمات اقتصادية متكررة

فنزويلا 2018 البوليفار الفنزويلي البوليفار السيادي 5

أزمة اقتصادية مستمرة وتضخم مفرط

إندونيسيا 1965 الروبية الإندونيسية الروبية الإندونيسية الجديدة 3 فشل نتيجة ضعف الاستعداد النفسي وتدهور الاقتصاد
العراق 2010-2012 الدينار العراقي الدينار العراقي 3 (خطة لم تنفذ بعد) خطط لم تنفذ بشكل كامل حتى الآن
ليبيا 2021-2025 الدينار الليبي الدينار الليبي لا حذف للأصفار (تخفيض قيمة فقط) تدهور في القوة الشرائية في ظل أزمة سياسية
أفغانستان 2002 أفغاني أفغانستاني أفغاني أفغانستاني
3 الهدف هو الإشارة إلى خروج أفغانستان من سنوات الصراع



Turkey 10 Million Lira Banknote, L.1970 (1999), P-214, Used

قصة تركيا (2005): من جذور المشكلة النقدية إلى قرار حذف 6 أصفار

واجهت تركيا على مدى عقود مشكلة التضخم المزمن الذي أدى إلى تدهور قيمة الليرة التركية بشكل كبير، ففي أواخر السبعينات وصل التضخم إلى مستويات ثلاثية الأرقام واستمر في الارتفاع في التسعينات وبداية الألفية الثالثة حيث أصبحت الأسعار تُقاس بملايين ومليارات الليرات. تفاقم التضخم بسبب مجموعة من العوامل بما في ذلك العجز الكبير في الموازنة العامة وتسييل هذا العجز والاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والنفقات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي والتوقعات التضخمية المستمرة وتأثيرات تغيرات أسعار الصرف على أسعار المدخلات المستوردة والزيادات في أسعار المنتجات العامة وارتفاع أسعار الفائدة. بحلول عام 2003، كان الدولار الأمريكي الواحد يعادل أكثر من 1.5 مليون ليرة تركية قديمة.

في ظل هذه الظروف، أصبحت الحاجة إلى إعادة هيكلة العملة ضرورية لتسهيل المعاملات واستعادة الثقة في الليرة. وفي عام 2004، أصدر البرلمان التركي قانوناً يسمح بإعادة تسمية الليرة عن طريق حذف ستة أصفار وتم تطبيق هذا القرار في الأول من يناير عام 2005 حيث أصبح كل مليون ليرة تركية قديمة (TRL) يعادل ليرة تركية جديدة واحدة (YTL). وخلال الفترة الانتقالية حتى نهاية عام 2008، عُرفَت العملة الجديدة باسم "الليرة التركية الجديدة" وكان الهدف من هذه الخطوة هو تبسيط التعاملات النقدية وتسهيل تسجيل الحسابات والإحصاءات واستعادة مصداقية العملة الوطنية، وقد ساهمت هذه الخطوة، إلى جانب سياسات اقتصادية أخرى، في خفض معدلات التضخم وتحسين صورة تركيا على الصعيد الدولي.



50000 Russian Rubles banknote 1995 - Exchange yours for cash today

قصة روسيا (1998): نموذج للتبسيط والاستقرار

بعد سنوات من التحولات الاقتصادية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، واجه الروبل الروسي تضخماً كبيراً في الأرقام مما جعل التعاملات اليومية معقدة. في الأول من يناير عام 1998، نفذت روسيا إصلاحاً نقدياً تضمن حذف ثلاثة أصفار من الروبل ليصبح كل 1000 روبل قديم يعادل روبلاً واحداً جديداً. كان الهدف من هذه الخطوة هو تبسيط التداول النقدي وتسهيل العمليات الحسابية للمواطنين والشركات وتحسين كفاءة العمليات المحاسبية، كما هدفت إلى العودة إلى نظام نقدي أكثر ألفة وسهولة في الإدارة.

تم تنفيذ عملية استبدال العملة القديمة بالجديدة بشكل تدريجي على مدى عدة سنوات حتى عام 2002، وقد كان لهذه الإصلاحات تأثير إيجابي على تداول الأموال حيث قللت من القيمة الاسمية للأموال المستخدمة في المعاملات وبسطت الحسابات وساهمت في العودة إلى نظام نقدي أكثر ملاءمة. يُنظر إلى التجربة الروسية في عام 1998 على أنها مثال ناجح نسبياً لإعادة تقييم العملة التي حققت أهدافها في تبسيط التعاملات وتعزيز الثقة خاصة أنها جاءت كجزء من جهود أوسع لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.




قصة الأرجنتين: إعادة التقييم المتكررة

على النقيض من التجربة الروسية، تقدم الأرجنتين مثالاً على كيف يمكن لإعادة تقييم العملة أن تفشل في تحقيق الاستقرار المستدام إذا لم تُعالج الأسباب الجذرية للتضخم، فعلى مدى عقود عانت الأرجنتين من فترات متكررة من التضخم المرتفع وحتى المفرط مما أدى إلى تآكل قيمة عملتها بشكل كبير. في محاولة لمواجهة هذه المشكلة وتبسيط التعاملات التي أصبحت تتطلب أرقاماً فلكية، لجأت الأرجنتين إلى إعادة تقييم عملتها عدة مرات على مدار النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ففي عام 1970، تم حذف صفرين من البيزو وفي عام 1983 تم حذف أربعة أصفار، تلتها عملية حذف ثلاثة أصفار في عام 1985 وفي عام 1992 تم حذف أربعة أصفار أخرى. على الرغم من هذه المحاولات المتكررة لحذف الأصفار وتغيير اسم العملة في بعض الأحيان فإن التضخم ظل مشكلة مستمرة في الأرجنتين. غالباً ما فشلت هذه الإجراءات في وقف تدهور قيمة العملة على المدى الطويل مما استدعى إجراءات تصحيحية جديدة بعد فترة وجيزة.

تُظهر التجربة الأرجنتينية أن إعادة تقييم العملة، رغم أنها قد تبسط الأرقام مؤقتاً، لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسات الاقتصادية السليمة والإصلاحات الهيكلية اللازمة للسيطرة على التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي المستدام.



Top 10 Weakest & Least Valuable Currencies in the World / Axi AU

سوريا ما بعد الأسد: اجتتاث إرث راسخ وتحديات شاقة

يُعد الوضع الاقتصادي في سوريا اليوم نتيجة مدمرة لما يقرب من أربعة عشر عاماً من الصراع المستمر. لم تكن الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد نتيجة مفاجئة، بل كانت تتفاقم تدريجياً على مر السنين. مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، ورثت الحكومة الانتقالية "دولة منهارة" و"اقتصاداً مدمراً". هذا يشير إلى أن الأزمة ليست مجرد حدث راهن، بل هي تتويج لسنوات من الحرب والقضايا الهيكلية العميقة التي أدت إلى تآكل أسس الاقتصاد والمؤسسات.

تُعد مستويات الفقر في سوريا مرتفعة بشكل كارثي، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر. ويواجه 66% من السكان فقراً مدقعاً. تشير بعض المصادر إلى أن نسبة الفقر كانت 82.5% في عام 2014. ارتفعت معدلات البطالة لتصل إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل عام 2011، حيث أصبح واحد من كل أربعة سوريين عاطلاً عن العمل. تشير مصادر أخرى إلى نسبة بطالة بلغت 50% في عام 2021 ، وارتفعت إلى 50% مؤخراً بسبب عمليات تسريح جماعية في القطاع العام. يعتمد ثلاثة من كل أربعة أشخاص على المساعدات الإنسانية ، ويحتاج 16.7 مليون شخص إلى المساعدة. هذا يتناقض بشكل صارخ مع نسبة 5% فقط كانت تعتمد على المساعدات في السنة الأولى من الصراع.

لم يقتصر الدمار على المؤشرات الاقتصادية الكلية، بل امتد ليشمل البنية التحتية والخدمات الأساسية بشكل واسع النطاق. تعرضت البنية التحتية الحيوية، مثل الطرق والجسور ومحطات الطاقة وشبكات المياه والمستشفيات والمدارس، لأضرار بالغة، لا سيما في المدن الكبرى. يُقدر أن حوالي 50% من البنية التحتية في البلاد قد دُمر أو أصبح غير صالح للعمل.

تُعاني البلاد من أزمة طاقة حادة؛ فقد انخفض إنتاج الطاقة بنسبة 80%، وتضرر أكثر من 70% من محطات الطاقة وخطوط النقل، مما قلل من قدرة الشبكة الوطنية بأكثر من ثلاثة أرباع. تتلقى العديد من المناطق أقل من ساعتين من الكهرباء يومياً. كما توجد أزمة مياه وصرف صحي، حيث تضرر أكثر من نصف محطات معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي، مما يترك ما يقرب من 14 مليون شخص دون مياه نظيفة أو صرف صحي.

شهد نظام الرعاية الصحية انهياراً، حيث تضرر ثلث المراكز الصحية وتعطل ما يقرب من نصف خدمات الإسعاف. تُعاني الأنظمة الطبية من نقص حاد في الوقود والأدوية. في قطاع التعليم، لا يذهب ما بين 40% و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عاماً إلى المدرسة.

تُشير هذه البيانات إلى أن حجم الدمار يتجاوز البنية التحتية المادية ليشمل رأس المال البشري والنسيج الاجتماعي. إن تدمير أنظمة الصحة والتعليم لا يتعلق فقط بالمباني، بل يتعلق بجيل ضائع من حيث التعليم وزيادة الوفيات بسبب ضعف الرعاية الصحية. تُظهر أرقام النزوح الواسعة أيضاً اضطراباً هائلاً في المجتمعات وشبكات التواصل والقوى العاملة. هذا يشير إلى أن "الدمار" متعدد الأبعاد، ويؤثر على إمكانات التعافي على المدى الطويل بشكل يتجاوز مجرد الأرقام الاقتصادية.

إن مستويات الفقر المرتفعة والاعتماد على المساعدات الإنسانية تُشير إلى تحول من اقتصاد كان يعمل، رغم عيوبه، إلى اقتصاد بقاء. قبل الصراع، كانت سوريا دولة متوسطة الدخل بمعدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي تجاوز 5%. كانت نسبة الفقر حوالي 33%. الآن، نسبة الفقر 90% والاعتماد على المساعدات 75%. هذا ليس مجرد ركود، بل هو انهيار أساسي حيث لا يستطيع غالبية السكان تلبية احتياجاتهم الأساسية من خلال النشاط الاقتصادي. انهار الاقتصاد الرسمي، وتوسع القطاع غير الرسمي. هذا يدل على أن الاقتصاد يُدار حالياً بدافع الضرورة وتوزيع المساعدات بدلاً من الاستثمار المنتج وقوى السوق.

يُساهم تدمير القطاعات الاقتصادية الرئيسية، مثل الزراعة والصناعة والطاقة، في خلق حلقة تبعية. تشير الأبحاث إلى أضرار جسيمة في الزراعة والصناعة. انخفض إنتاج النفط بشكل حاد. كانت هذه القطاعات مهمة تاريخياً. خسارة القدرة الإنتاجية المحلية تعني زيادة الاعتماد على الواردات لتلبية الاحتياجات الأساسية. هذا، بدوره، يضع ضغطاً على العملة (حيث تحتاج البلاد إلى عملة أجنبية للواردات) ويجعل السكان عرضة للصدمات الخارجية في الأسعار. هذا يخلق حلقة مفرغة: دمار ← انخفاض الإنتاج ← زيادة الواردات ← ضغط على العملة ← ارتفاع تكاليف الواردات ← تعميق الفقر.

يُقدم الجدول التالي لمحة موجزة عن المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في سوريا لتوضيح حجم الأزمة:
المؤشر قبل الثورة (بحدود عام 2010) التقديرات الحالية (2023-2024) ملاحظات
الناتج المحلي الإجمالي (مليار دولار)
~ 61 67.5
~ 8 21 انكماش يقدر بـ 83% 85%
معدل الفقر ~ 33% > 90% -
معدل الفقر المدقع ~ 11% > 66% -
معدل البطالة غير محدد بوضوح
25% 50% ارتفعت ثلاثة أضعاف، بعض التقديرات تصل إلى 50%
السكان المحتاجون للمساعدة غير محدد بوضوح
16.7 مليون أكثر من 75% من السكان يعتمدون على المساعدات مقارنةً بـ 5% عام 2010
النازحون غير محدد > 13 مليون أكثر من نصفهم نازحون داخلياً

شهدت الليرة السورية تدهوراً مريعاً في قيمتها منذ بداية الصراع في عام 2011. قبل مارس 2011، كان سعر الصرف الرسمي حوالي 47 ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي. تسارعت وتيرة الانخفاض بشكل كبير على مر السنين حتى وصلت قيمة الدولار إلى 515 ليرة سورية في يوليو 2017، و765 ليرة في نوفمبر 2019 متأثرة بالأزمة السيولة والمصارف اللبنانية، ثم تجاوزت 3000 ليرة في منتصف عام 2020. استمر التدهور ليصل إلى 7150 ليرة في ديسمبر 2022، و14000 ليرة في ديسمبر 2023، و15000 ليرة في عام 2024.

تحت نظام الأسد، كان السعر الرسمي للصرف يتخلف بشكل كبير عن سعر السوق الموازي (السوق السوداء). حاولت الحكومة السيطرة على تعاملات العملة الأجنبية. بدأ المصرف المركزي في تعديل السعر الرسمي ليقترب من سعر السوق الموازي في منتصف عام 2023. حول وقت سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، ارتفع سعر السوق الموازي بشكل حاد ليصل إلى حوالي 22.000-30.000 ليرة للدولار. أشارت بعض التقارير إلى أسعار أعلى بلغت 28.000-42.000 ليرة للدولار في أوائل ديسمبر 2024 خلال تقدم المعارضة.

بعد سقوط النظام، شهدت الليرة بعض التحسن حيث تراوح سعر الصرف بين 10.000 و12.500 ليرة للدولار. بحلول يناير 2025، كان السعر حوالي 10.000-11.000 ليرة. في فبراير 2025، تم تحديد السعر الرسمي عند 13200 ليرة. وبحلول مايو 2025، كان السعر الرسمي 13.000 ليرة. بشكل عام، فقدت الليرة 99.64% من قيمتها مقابل الدولار مقارنة بما قبل عام 2011. انخفض السعر الرسمي 270 ضعفاً بين عامي 2011 و 2023.

كان لانهيار العملة عواقب وخيمة على حياة السوريين حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل جنوني وارتفعت الأسعار 210 أضعاف مقارنة بعام 2011 بنهاية عام 2024 وارتفع سعر الخبز عشرة أضعاف. أدى هذا إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين فأصبحت رواتب القطاع العام، التي انخفضت بنسبة 75% منذ بداية الصراع ، لا تكاد تغطي نفقات يوم واحد لأسرة متوسطة حيث يعادل متوسط الراتب حوالي 20-30 يورو شهرياً.

انهيار العملة ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل له آثار اجتماعية ونفسية وخيمة حيث تُظهر البيانات أن انهيار العملة يؤدي مباشرة إلى عدم القدرة على تحمل تكاليف السلع الأساسية وتآكل القوة الشرائية. هذا يترجم إلى فقر وجوع واسعي النطاق بالإضافة إلى المشقة المادية فإن التعامل مع عملة لا قيمة لها وحمل حزم كبيرة من النقود والأسعار التي ترتفع باستمرار يخلق ضغطاً نفسياً وفقداناً للكرامة. هذا يسلط الضوء على أن استقرار العملة أساسي للرفاهية الاجتماعية والثقة في الدولة.

ارتفاع قيمة الليرة بعد سقوط نظام الأسد، رغم أنه إيجابي، لا يعكس بالضرورة تعافياً اقتصادياً أساسياً حيث ارتفعت قيمة الليرة بعد سقوط النظام وكان هذا مرتبطاً بعوامل مثل زيادة حرية تداول العملة الأجنبية والآمال في الاستقرار وعودة محتملة للمغتربين. ومع ذلك، تشير بعض التقارير إلى أنه على الرغم من تحسن العملة فإن النشاط السوقي والظروف الاقتصادية العامة لا تزال راكدة أو تدهورت. هذا يشير إلى أن الارتفاع الأولي قد يكون مدفوعاً بنشاط مضاربي أو دفعة مؤقتة في الثقة بدلاً من انتعاش القطاعات الإنتاجية أو تدفق كبير للاستثمار الأجنبي أو المساعدات, فالمشاكل الهيكلية الأساسية (الدمار، العقوبات، نقص الاستثمار) لا تزال قائمة. هذا يعني أن استقرار العملة وحده، خاصة إذا لم يكن مدعوماً بنمو اقتصادي حقيقي، هشٌّ بما فيه الكفاية.



Syria calls for lifting sanctions on funds transfers to its banks – Middle  East Monitor

سوريا الجديدة: هل حان الآن الوقت لتحديث الليرة؟

باختزال كل ما سبق, فبالنسبة لسوريا تشير الظروف الاقتصادية الحالية (التضخم المرتفع، انخفاض قيمة العملة، الحاجة إلى حمل مبالغ كبيرة، احتمال استبدال العملة) إلى أن إعادة تقييم العملة قد تكون مفيدة من الناحية الفنية لتبسيط المعاملات والمحاسبة. ومع ذلك، تؤكد الأبحاث أن إعادة التقييم غير فعالة في اقتصاد ضعيف دون سياسات استقرار. تفتقر سوريا حالياً إلى هذه الظروف.

إن تنفيذ إعادة تقييم العملة قبل الأوان أو دون معالجة الأسباب الجذرية (أضرار الحرب، العقوبات، الفساد، العجز المالي) يحمل خطر أن يكون مجرد إجراء رمزي يفشل في استعادة الثقة ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم حالة الذعر. يعتمد النجاح بشكل كبير على الثقة العامة والاستقرار السياسي، وهما تحديان كبيران في سوريا ما بعد الصراع.

إعادة تقييم العملة هي أداة لإدارة أعراض التضخم (الأرقام الكبيرة، ضعف المصداقية) بدلاً من أسبابه (العجز المالي، طباعة النقود، نقص الإنتاج). يوضح تعريف إعادة تقييم العملة صراحة أنها لا تغير القوة الشرائية. تُظهر دراسات الحالة، لا سيما دولة زيمبابوي، أنه بدون معالجة الأسباب الجذرية للتضخم المفرط (مثل طباعة النقود)، فإن إعادة تقييم العملة تكون عديمة الجدوى وقد تحتاج إلى تكرارها. هذا يعني أنه بالنسبة لسوريا، فإن التركيز على الانضباط المالي والتعافي الاقتصادي هو شرط مسبق ضروري لكي يكون لإعادة تقييم العملة أي تأثير إيجابي ذي معنى.

يعتمد نجاح إعادة تقييم العملة بشكل كبير على العوامل السياسية والإدراك العام، وليس فقط على الأساسيات الاقتصادية. تسلط العديد من المصادر الضوء على الطبيعة السياسية لإعادة تقييم العملة. يمكن استخدامها للإشارة إلى الانفصال عن أخطاء الماضي وتعزيز الثقة. الثقة العامة في الحكومة والمصرف المركزي حاسمة لقبول العملة الجديدة وتقييمها. نظراً للتشرذم السياسي العميق، واستمرار انعدام الأمن، وضعف الثقة العامة في المؤسسات في سوريا، فإن تنفيذ إعادة تقييم العملة سيكون محفوفاً بمخاطر عالية دون بناء توافق سياسي واسع أولاً وإظهار التزام موثوق به بالإصلاح.

تُعد إعادة تقييم العملة، رغم أنها أداة فنية يمكن أن تساعد في تبسيط المعاملات، غير كافية بحد ذاتها. تُشير الدروس المستفادة من التجارب الدولية إلى أن نجاح إعادة تقييم العملة يعتمد بشكل حاسم على تنفيذها ضمن إطار من الاستقرار الاقتصادي الكلي الحقيقي واستعادة الثقة العامة في المؤسسات والعملة. فبدون معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، مثل العجز المالي، وطباعة النقود، والفساد، وتدمير البنية التحتية، ستظل أي محاولة لإعادة تقييم العملة مجرد إجراء شكلي قد لا يؤدي إلى استقرار دائم.



المصادر:


التعليقات

القائمة الرئيسية