
فخر فنلندا: نوكيا .. سقوط إمبراطورية أم اغتيال مُدبر؟
لا تزال تلك النغمة الشهيرة "Nokia Tune" تثير في نفوس الملايين حول العالم موجة من الحنين إلى زمن كانت فيه الهواتف المحمولة رمزاً للمتانة وبطاريات تدوم أياماً وتصميماً عملياً يركز على الجوهر. كانت نوكيا، الشركة الفنلندية العملاقة، أكثر من مجرد مصنع للهواتف؛ لقد كانت إمبراطورية تكنولوجية تربعت على عرش الاتصالات والابتكار لعقد ونيف، ووضعت معايير الصناعة وشكلت جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس اليومية, لكن كما لكل صعود قمة، هناك منعطفات قد تؤدي إلى الهاوية.
قصة نوكيا ليست مجرد سرد لتاريخ شركة، بل هي ملحمة درامية عن الابتكار والسيطرة والغطرسة المحتملة والقرارات الكارثية, وفي نظر الكثيرين هي مؤامرة مكتملة الأركان أدت إلى "اغتيال" متعمد لعملاق كان يُنظر إليه على أنه لا يُقهر. هذا المقال لا يهدف فقط إلى استعراض الأحداث، بل إلى الغوص في أعماقها، والتحدث بصراحة عن الخيوط التي تشير إلى عملية اغتيال ممنهجة مستنيرين بما تكشفه تحليلات معمقة كتلك التي تُعرض في تحقيقات مصورة محاولاً كشف تفاصيل دقيقة قد تغير فهمنا لما حدث بالفعل لواحدة من أعظم الشركات في تاريخ التكنولوجيا.
لكن كيف هوى عملاق الهواتف المحمولة من قمة عالم الهواتف إلى حافة الهاوية بهذه السرعة؟
هل كان صعود آيفون وأندرويد، رغم بدايتهما المتواضعة مقارنة بنوكيا، هو السبب الوحيد؟ أم أن هناك أسراراً أعمق؟
ما حقيقة القرارات الداخلية الكارثية؟ هل كانت مجرد أخطاء, أم جزءاً من مؤامرة متعمدة قادت نوكيا إلى مصيرها؟
من هو الرجل القادم من مايكروسوفت لقيادة نوكيا وهل كان حقاً "حصان طروادة" الذي قاد نوكيا إلى مذبحها؟
لماذا تم التضحية بنظام "MeeGo" الواعد والمُبهر لصالح "Windows Phone" المثير للجدل؟
هل كانت الشراكة مع مايكروسوفت محاولة يائسة للنجاة، أم فخاً محكماً تم تدبيره في الخفاء؟
ما سر "الدعم المالي" الذي قدمته مايكروسوفت؟ وهل كان ثمناً لتسريع الانهيار تمهيداً للاستحواذ؟
هل كانت صفقة الاستحواذ بثمنها البخس مجرد عمل تجاري؟ أم تتويجاً لـ "اغتيال اقتصادي" كانت غايته الحقيقية براءات الاختراع؟
وهل كان يمكن لنوكيا النجاة بتبني أندرويد؟ أم أن مصيرها كان قد حُسم بالفعل بفعل فاعل؟
كيف تُفسَّر المكافأة المليونية لرجل مايكروسوفت, الذي قاد نوكيا, بعد إتمام الصفقة؟ هل هي "مكافأة نجاح" أم "ثمن الخيانة"؟
وماذا عن عودة نوكيا مع HMD في بداية عام 2017؟ هل هي محاولة صادقة لإحياء الأسطورة أم مجرد استغلال تجاري لاسم عريق؟
هل نجحت HMD في مواجهة التحديات؟ وما هو مستقبل علامة نوكيا اليوم في ظل استراتيجياتها الجديدة؟
وفي النهاية، هل ستذكرنا قصة نوكيا, رائدة الابتكار, بفشل شركة في التكيف؟ أم بضحية لأكبر مؤامرة تجارية في العصر الحديث؟
يُقدم هذا المقال ثمرة بحثٍ متواضع ومكثف محاولاً ربط خيوط قصة نوكيا المعقدة، لكن لا بد من الإقرار بأن الحقيقة الكاملة بكل أبعادها وتفاصيلها الدقيقة، قد تظل حبيسة الكواليس والأسرار، على الرغم من كل ما تم نشره وكشفه حتى الآن.
(Credits: Nokia has a rich history that has nothing to do with phones)
من غابات فنلندا إلى قمة عالم الاتصالات: ومضات من تاريخ عريق
قد يعتقد البعض أن قصة نوكيا تبدأ مع الهواتف المحمولة، لكن جذور هذه الشركة تمتد إلى عمق التاريخ الفنلندي إلى عام 1865 تحديداً عندما أسس المهندس "فريدريك إيدستام" مصنعاً للب الخشب على ضفاف نهر نوكيانفيرتا، الذي استوحت منه الشركة اسمها لاحقاً. لم تكن رحلة نوكيا خطّيّة أبداً؛ فقد تنوعت أنشطتها عبر العقود لتشمل صناعة الإطارات المطاطية والكابلات والأحذية وحتى أجهزة التلفزيون والإلكترونيات الاستهلاكية. هذا التنوع، الذي قد يبدو غريباً اليوم، هو ما صقل قدرة نوكيا على التكيف والتحول وهي السمة التي مكنتها من اقتناص فرصة الثورة الرقمية القادمة. في أواخر الستينيات، بدأت نوكيا بتأسيس قسم للإلكترونيات، والذي ركز على معدات الاتصالات. كان هذا القسم هو النواة التي ستنمو لتصبح فيما بعد عملاق الهواتف المحمولة الذي نعرفه.
لم يكن التحول نحو الاتصالات وليد الصدفة بل كان نتيجة رؤية استراتيجية بعيدة المدى واستثمارات جريئة في البحث والتطوير. في الثمانينيات، ومع بزوغ فجر عصر الاتصالات المتنقلة، كانت نوكيا في طليعة الشركات التي طورت معايير شبكات GSM، وهو المعيار الذي سيطر على الاتصالات المتنقلة عالمياً لعقود، كما كانت من أوائل الشركات التي أنتجت هواتف محمولة تجارية مثل "موبيرا سيتي مان" الضخم في عام 1987، لكن الانطلاقة الحقيقية كانت في التسعينيات عندما قررت نوكيا تركيز كل جهودها على قطاع الاتصالات والتخلص التدريجي من أعمالها الأخرى. كان هذا القرار بمثابة نقطة تحول حاسمة مهدت الطريق لعصر ذهبي لم يسبق له مثيل في تاريخ الشركة بل وفي تاريخ صناعة الهواتف المحمولة بأكملها. لقد كانت نوكيا تستعد لغزو العالم، ليس فقط بمنتجاتها بل بثقافتها التي تمزج بين الهندسة الفنلندية الدقيقة وفهم عميق لاحتياجات المستخدمين.

العصر الذهبي: عندما كانت نوكيا هي العالم
من أواخر التسعينيات وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، لم تكن نوكيا مجرد لاعب رئيسي في سوق الهواتف المحمولة بل كانت هي السوق ذاته. لقد تحولت هواتفها من أدوات اتصال نخبوية إلى أجهزة شعبية في متناول الجميع، مغيرة بذلك طريقة تواصل البشر وتفاعلهم. كانت ذروة هذا النجاح بخلاف ما قد يعتقده البعض بأنها في عام 2010 قد بدأت تتشكل بقوة منذ عام 2000 ووصلت أوجها حوالي عام 2007-2008 حيث استحوذت نوكيا على ما يقرب من 40% من حصة سوق الهواتف المحمولة العالمية – وهو رقم مذهل لم تستطع أي شركة أخرى تحقيقه منذ ذلك الحين في سوق بهذا الحجم والتنافسية.
كان سر هذا النجاح يكمن في عدة عوامل متضافرة:
— أولاً: الجودة والمتانة الأسطورية. هواتف مثل "نوكيا 3310" (الذي أُطلق عام 2000) لم تكن مجرد هواتف، بل كانت أسلحة صمود قادرة على تحمل السقوط والصدمات مما أكسبها سمعة لا تضاهى.
— ثانياً، سهولة الاستخدام وواجهة المستخدم البديهية. نظام التشغيل "سيمبيان" (Symbian)، الذي اعتمدته نوكيا في هواتفها الذكية المبكرة، كان متقدماً في وقته وسمح بتعدد المهام وتثبيت التطبيقات وإن كان بطريقة تختلف عن متاجر التطبيقات الحديثة.
— ثالثاً: الابتكار المستمر. قدمت نوكيا للعالم أول هاتف بكاميرا مدمجة (نوكيا 7650 عام 2002) وأول هاتف يدعم تقنية الجيل الثالث (نوكيا 6650 عام 2002) وسلسلة "Communicator" التي كانت بمثابة مكاتب متنقلة لرجال الأعمال، وهواتف "N-Gage" المخصصة للألعاب.
لم تقتصر قوة نوكيا على الهواتف "الغبية" أو الهواتف المميزة (Feature Phones) فحسب، بل امتدت إلى الهواتف الذكية. سلسلة "N-Series" التي أُطلقت في منتصف العقد الأول من
الألفية، كانت تمثل قمة الابتكار، حيث جمعت بين التصميم الأنيق والكاميرات عالية الجودة (بالتعاون مع Carl Zeiss) والقدرات المتعددة الوسائط.

هواتف مثل "N95" (الذي أُطلق عام 2007) كان بمثابة كمبيوتر جيبي، سبق "آيفون" في تقديم العديد من الميزات مثل نظام تحديد المواقع GPS وكاميرا 5 ميجابكسل وتصفح الإنترنت المتقدم. كانت نوكيا تدرك أهمية البرمجيات والخدمات واستثمرت في تطوير منصة "Ovi" التي قدمت الخرائط والموسيقى والألعاب والبريد الإلكتروني. لقد كانت الشركة تبني نظاماً بيئياً متكاملاً وكانت تبدو وكأنها لا يمكن إيقافها. كانت إيراداتها تتجاوز عشرات المليارات من اليوروهات وأرباحها قياسية وقيمتها السوقية هائلة. لقد كانت نوكيا بحق "ملك الهواتف المحمولة".

رياح التغيير العاتية: ظهور آيفون وأندرويد – وتسريبات عن مؤامرة تُحاك في الخفاء
في التاسع من يناير عام 2007، وقف ستيف جوبز، المؤسس المشارك لشركة آبل، على خشبة المسرح وأعلن عن منتج سيغير وجه صناعة الهواتف المحمولة إلى الأبد: جهاز "iPhone". لم يكن "iPhone" مجرد هاتف ذكي آخر بل كان تجربة مستخدم ثورية بشاشته اللمسية المتعددة بالكامل ونظام تشغيله "iOS" المصمم خصيصاً لهذه التجربة ومتجر التطبيقات الذي فتح الباب أمام موجة جديدة من الابتكار. في البداية، قلل الكثيرون في نوكيا وربما بتوجيه مقصود، من شأن "iPhone" معتبرين إياه جهازاً باهظ الثمن يفتقر إلى بعض الميزات الأساسية وبطاريته ضعيفة. كان هناك شعور بالثقة المفرطة داخل أروقة نوكيا مدعوماً بسيطرتها السوقية الهائلة، ولكن هل كانت هذه الثقة في محلها؟ أم كانت جزءاً من ستار لإخفاء ضعف قادم أو مخطط له؟
لكن "iPhone" لم يكن مجرد جهاز بل كان بداية تحول نموذجي فسرعان ما أدرك العالم أن المستقبل يكمن في الشاشات اللمسية الكبيرة والواجهات الرسومية الجذابة والنظم البيئية للتطبيقات. وفي العام التالي، 2008، ظهر "أندرويد" من جوجل كنظام مفتوح المصدر ليشكل تحدياً أكبر. فجأة، وجد نظام "سيمبيان" نفسه يبدو قديماً. هنا بدأت الهمسات الأولى حول ما إذا كان تباطؤ نوكيا في الاستجابة متعمداً أو نتيجة قرارات داخلية مريبة.
بدأت نوكيا تشعر بالضغط، حاولت الرد بهواتف بشاشات لمس مثل "نوكيا 5800 XpressMusic" لكنها بدت كخطوات متأخرة وغير كافية. هل كان هناك من يعمل على إضعاف قدرة نوكيا على المنافسة من الداخل؟ كانت البيروقراطية الداخلية وهياكلها التنظيمية المعقدة تبطئ من عملية اتخاذ القرار. وبينما كانت آبل وجوجل تتحركان بسرعة البرق، كانت نوكيا تبدو وكأنها سفينة ضخمة يتم توجيهها عمداً نحو جبل الجليد. الأسئلة حول وجود "طابور خامس" داخل نوكيا بدأت تطفو على السطح، وإن بصوت خافت في البداية.

(Credits: Microsoft Buys Nokia’s Devices and Services, Stephen Elop Returning to Microsoft)
حصان طروادة: ستيفن إيلوب ومهمة تصفية نوكيا – الأدلة تتراكم
في خضم هذه التحديات المتزايدة، وفي خطوة اعتبرها الكثيرون بداية الفصل الأخير من "مؤامرة اغتيال نوكيا"، أعلنت الشركة في سبتمبر 2010 عن تعيين ستيفن إيلوب، المسؤول التنفيذي الكندي القادم مباشرة من مايكروسوفت، رئيساً تنفيذياً جديداً لها. كان إيلوب أول غير فنلندي يقود الشركة وتم تقديمه كمنقذ محتمل. لكن تاريخه في مايكروسوفت وعلاقاته الوثيقة بها جعلت الكثيرين يشككون في نواياه الحقيقية منذ اليوم الأول: هل كان إيلوب حقاً "حصان طروادة" أرسلته مايكروسوفت لتفكيك نوكيا من الداخل تمهيداً للاستحواذ عليها بثمن بخس؟
في فبراير 2011، ألقى إيلوب قنبلة مدوية عندما أرسل مذكرة داخلية للموظفين عُرفت لاحقاً باسم مذكرة "المنصة المشتعلة" (Burning Platform). في هذه المذكرة، شبه إيلوب وضع نوكيا برجل يقف على منصة نفطية مشتعلة في عرض البحر وليس أمامه خيار سوى القفز إلى المياه المتجمدة. كانت المذكرة بمثابة إعلان صريح بأن نظام "Symbian" قد انتهى وأن نوكيا بحاجة إلى تغيير جذري وفوري. وبعد أيام قليلة أعلن إيلوب عن شراكة استراتيجية وحصرية مع مايكروسوفت، تقضي بأن تتخلى نوكيا عن نظام "Symbian" الذي كان لا يزال يمتلك قاعدة مستخدمين ضخمة، ونظام "ميغو" (MeeGo) الواعد – الذي كان قيد التطوير بالتعاون مع إنتل وكان يُنظر إليه على أنه بديل حقيقي لـ "أندرويد" و"iOS" – وأن تعتمد بدلاً من ذلك على نظام "ويندوز فون" (Windows Phone) من مايكروسوفت كنظام تشغيل أساسي لهواتفها الذكية.
هاتف "نوكيا N9" (الذي أُطلق في منتصف 2011)، الذي أُطلق بنظام "MeeGo" وحظي بإشادة عالمية، تم إعدامه فعلياً من قبل إيلوب الذي أعلن أنه سيكون "آخر" هاتف بهذا النظام حتى قبل أن يرى النور بشكل كامل في الأسواق العالمية. كان هذا القرار بمثابة صدمة للكثيرين حيث كان نظاماً أنيقاً وسلساً وحظي بإشادة واسعة من النقاد، ولكن لماذا تقتل نوكيا طفلها الواعد لصالح نظام تشغيل غريب، جديد، وغير مثبت، قادم من شركة كانت حتى الأمس القريب منافساً؟
يرى أصحاب نظرية "المؤامرة" أن إيلوب، بحكم خلفيته في مايكروسوفت، كان يعمل على تحقيق مصالح شركته السابقة. لقد قلل من قيمة أصول نوكيا البرمجية، ودفعها نحو نظام تشغيل كان من الواضح أنه يواجه صعوبة في اكتساب حصة سوقية. هواتف "لوميا" (Lumia)، التي أُطلقت بنظام "ويندوز فون" (Windows Phone)، كانت أجهزة جيدة من حيث التصميم والكاميرا لكن نظام التشغيل نفسه عانى من نقص حاد في التطبيقات مقارنة بمنافسيه، ولم يتمكن من جذب المستهلكين بالقدر الكافي. هواتف "Lumia"، التي أُطلقت بنظام "ويندوز فون"، كانت أجهزة جيدة التصميم لكنها كانت محكومة بالفشل بسبب نظام تشغيل يفتقر إلى التطبيقات والنظام البيئي الجذاب. بدأت حصة نوكيا السوقية في الانهيار بشكل دراماتيكي.
بدأت حصة نوكيا السوقية في الانهيار بشكل متسارع. وبينما كانت الشركة تنزف مالياً وتفقد قيمتها السوقية يوماً بعد يوم، والأكثر إثارة للريبة هو أن مايكروسوفت كانت تقدم "دعماً مالياً" لنوكيا (مليارات الدولارات) مقابل استخدام "ويندوز فون". في نظر أصحاب نظرية المؤامرة، لم يكن هذا دعماً، بل كان "رشوة" مقنعة لتسريع عملية تدمير قيمة نوكيا، وهو ما اعتبره البعض جزءاً من الخطة لإضعاف نوكيا تمهيداً للاستحواذ عليها.
وفي سبتمبر 2013، تحقق ما كان يخشاه الكثيرون: أعلنت مايكروسوفت عن استحواذها على قطاع الأجهزة والخدمات في نوكيا بالإضافة إلى مجموعة من براءات الاختراع مقابل 7.2 مليار دولار – وهو مبلغ اعتبره الكثيرون زهيداً جداً مقارنة بالقيمة الحقيقية لنوكيا وإرثها –، اكتملت الصفقة في أبريل 2014 وبذلك انتهى رسمياً عصر نوكيا كشركة مستقلة مصنعة للهواتف المحمولة. انتقل ستيفن إيلوب نفسه إلى مايكروسوفت كجزء من الصفقة وحصل على مكافأة ضخمة مما زاد من شكوك المتآمرين. لقد بدا الأمر وكأنه "اغتيال" مُحكم لعملاق فنلندي نفذته أيادٍ داخلية وخارجية.

(Credits: HMD Global Aims To Make India Export Hub For Nokia & New Smartphone Brands)
من رماد الهزيمة: عودة العنقاء مع HMD Global
لم تكن قصة نوكيا لتنتهي عند هذا الحد المأساوي. فبينما كانت مايكروسوفت تكافح لجعل هواتف "لوميا" (التي أصبحت تحمل علامة مايكروسوفت التجارية) ناجحة، كان هناك مجموعة من موظفي نوكيا السابقين، الذين يحملون في قلوبهم ولاءً عميقاً للعلامة التجارية وإرثها، يخططون لعودة غير متوقعة. في مايو 2016، تأسست شركة فنلندية جديدة تدعى "إتش إم دي جلوبال" (HMD Global Oy). كان الهدف المعلن لـ HMD هو إعادة علامة نوكيا التجارية إلى سوق الهواتف المحمولة.
حصلت HMD Global على حقوق حصرية لاستخدام اسم "نوكيا" التجاري للهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية لمدة عشر سنوات، وذلك من شركة نوكيا الأم (التي احتفظت بأعمالها في مجال شبكات الاتصالات وبراءات الاختراع). كما استحوذت HMD على جزء من أعمال الهواتف المميزة (featured phones) التي كانت قد اشترتها مايكروسوفت من نوكيا، بالإضافة إلى حقوق التصميم المتعلقة بها. ولضمان النجاح في عالم تسيطر عليه جوجل وآبل، اتخذت HMD قراراً استراتيجياً حاسماً: عقد شراكة وثيقة مع Google واعتماد نظام التشغيل "أندرويد" كنظام أساسي لجميع هواتف نوكيا الذكية الجديدة. كما تعاونت مع شركة "Foxconn" التايوانية لتصنيع الأجهزة.
في بداية عام 2017، بدأت HMD Global بإطلاق أولى هواتف نوكيا التي تعمل بنظام "أندرويد". ركزت الشركة في البداية على استراتيجية تجمع بين الحنين إلى الماضي والتركيز على القيم الأساسية التي اشتهرت بها نوكيا: الجودة والمتانة والتصميم الاسكندنافي البسيط وتجربة "أندرويد" نقية وخالية من الإضافات غير الضرورية (Android One) مع التزام بالتحديثات الأمنية والبرمجية المنتظمة. لاقت هذه الاستراتيجية استحساناً من قبل المستهلكين والنقاد على حد سواء. هواتف مثل "نوكيا 6" و"نوكيا 3310" (بنسخته المحدثة) أعادت اسم نوكيا إلى الأضواء.
واصلت HMD توسيع مجموعتها من الهواتف مقدمةً أجهزة تناسب مختلف الفئات السعرية، من الهواتف الاقتصادية إلى الهواتف المتوسطة وحتى بعض المحاولات في الفئة العليا. كان أحد أبرز إنجازات هذه الفترة هو إطلاق هاتف "Nokia 8.3 5G" في مارس 2020. لم يكن هذا الهاتف مجرد جهاز يدعم تقنية الجيل الخامس، بل تم تسويقه كـ "أول هاتف ذكي 5G عالمي حقيقي" نظراً لدعمه لمجموعة واسعة جداً من نطاقات ترددات الجيل الخامس المستخدمة في مختلف أنحاء العالم. كان هذا بمثابة شهادة على طموح HMD وقدرتها على الابتكار، وبدا وكأن علامة نوكيا التجارية قد بدأت تستعيد بعضاً من بريقها المفقود. لقد كانت فترة صعود واعدة، وأثبتت أن روح نوكيا لم تمت وأن هناك من يسعى جاهداً لإحيائها.

(Credits: Watch HMD unveil Nokia phones live right here | Feb 25, 2018)
أفول نجم أم إعادة تموضع؟ نوكيا في مواجهة عمالقة السوق
على الرغم من النجاحات الأولية والعودة المشرفة التي قادتها HMD Global فإن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود فسرعان ما اصطدمت طموحات إحياء نوكيا بالواقع المرير لسوق الهواتف الذكية الحديث، الذي أصبح ساحة معركة شرسة تهيمن عليها حفنة من اللاعبين الكبار. شركات مثل سامسونج وآبل، اللتين كانتا السبب الرئيسي في تراجع نوكيا في المقام الأول، ما زالتا تحتلان قمة الهرم، بقوة علامتهما التجارية، ونظمهما البيئية المتكاملة، وميزانياتهما التسويقية الضخمة.
ولم تقتصر المنافسة على هذين العملاقين. فقد برزت مجموعة من الشركات الصينية بقوة هائلة، مقدمة هواتف ذات مواصفات عالية وأسعار تنافسية للغاية. شركات مثل هواوي (على الرغم من التحديات التي واجهتها بسبب العقوبات الأمريكية)، وشاومي، وأوبو، وفيفو، وريلمي، وحتى العلامات التجارية الفرعية مثل ريدمي وتكنو، أغرقت السوق بخيارات متنوعة وجذابة، مما جعل مهمة HMD في استعادة حصة سوقية كبيرة لنوكيا أمراً في غاية الصعوبة.
بدأت قوة نوكيا التنافسية في التضاؤل تدريجياً. فبينما كانت تركز على تقديم تجربة "أندرويد" نقية وجودة بناء جيدة، كانت الشركات الأخرى تتنافس بشراسة في مجالات أخرى مثل قوة المعالجات، وجودة الكاميرات (خاصة فيما يتعلق بالمعالجة البرمجية للصور)، وسرعة الشحن، والتصاميم المبتكرة. وجد المستهلكون أن هواتف نوكيا، على الرغم من جودتها، قد لا تقدم دائماً أفضل قيمة مقابل السعر مقارنة ببعض المنافسين، خاصة في الفئات المتوسطة والاقتصادية المزدحمة.
أمام هذا الواقع، بدأت HMD Global في إعادة تقييم استراتيجيتها. في خطوة أثارت الكثير من التكهنات حول مستقبل علامة نوكيا التجارية في عالم الهواتف، أعلنت HMD في أواخر عام 2023 وبداية عام 2024 عن نيتها إطلاق هواتف ذكية تحمل علامتها التجارية الخاصة "HMD"، إلى جانب الاستمرار في إنتاج هواتف نوكيا. بررت الشركة هذه الخطوة بأنها تهدف إلى بناء "هوية متعددة العلامات التجارية"، وأنها ستواصل دعم هواتف نوكيا.
ومع ذلك، يرى العديد من المحللين أن هذا التحول قد يكون بداية النهاية التدريجية لعلامة نوكيا التجارية في الهواتف الذكية كما نعرفها تحت إدارة HMD. قد تركز HMD على بناء علامتها التجارية الخاصة، بينما يتم تقليص دور نوكيا ليقتصر على بعض الهواتف المميزة (feature phones) التي لا تزال تحظى بشعبية في بعض الأسواق، أو ربما بعض الهواتف الذكية التي تستهدف فئات معينة. يبدو أن HMD تدرك صعوبة المنافسة بالاعتماد فقط على اسم نوكيا، وتسعى إلى تنويع مصادرها وبناء مستقبل مستقل. إنها لحظة مفصلية أخرى في تاريخ هذه العلامة التجارية العريقة، حيث تتداخل فيها آمال الإحياء مع تحديات البقاء في سوق لا يرحم.

(Credits: Why did Nokia fail and what can you learn from it)
ما وراء السرديات: جوانب خفية وقرارات تؤكد المؤامرة
عندما نتأمل قصة نوكيا، وخاصة فترة سقوطها، من المهم أن ننظر إلى ما هو أبعد من السرديات المبسطة التي تلقي باللوم على عامل واحد، فالأدلة والقرائن تشير بقوة إلى أن ما حدث لم يكن مجرد سوء تقدير أو فشل في التكيف، بل عملية ممنهجة لتدمير الشركة من الداخل والخارج.
الثقافة الداخلية لنوكيا، التي اتسمت بالرضا عن الذات والبيروقراطية بعد سنوات الهيمنة، شكلت أرضاً خصبة لنجاح أي مخطط يستهدفها، لكن الأفعال المباشرة لستيفن إيلوب هي التي تثير أكبر علامات الاستفهام، فمثلاً قراره بقتل نظام "MeeGo" الواعد، الذي كان يمكن أن يكون طوق نجاة نوكيا الحقيقي والمنافس الجدي لأندرويد و iOS، لصالح "Windows Phone" الضعيف، لا يمكن تفسيره بمنطق الأعمال السليم. هاتف "نوكيا N9" أثبت للعالم أن نوكيا قادرة على الابتكار، لكن هذا الابتكار تم وأده عمداً.
صفقة الاستحواذ من قبل مايكروسوفت بحد ذاتها كانت مليئة بالثغرات: السعر البخس، توقيت الصفقة بعد أن تم إضعاف نوكيا بشكل كبير، والمكافأة الضخمة التي حصل عليها إيلوب، كلها تفاصيل تعزز نظرية المؤامرة. هل كانت مايكروسوفت تهدف حقاً لبناء نظام بيئي ثالث، أم كان الهدف هو الاستيلاء على براءات اختراع نوكيا الثمينة وتصفية منافس قوي محتمل بأقل تكلفة ممكنة؟ تخلي مايكروسوفت لاحقاً عن قطاع الهواتف بالكامل يرجح الكفة نحو الخيار الثاني. لم تكن مايكروسوفت مهتمة بإنقاذ نوكيا أو حتى بنجاح "Windows Phone" على المدى الطويل بقدر اهتمامها بتحقيق مكاسب استراتيجية قصيرة المدى على حساب العملاق الفنلندي.
إن تجاهل هذه الحقائق والتركيز فقط على "فشل نوكيا في مواكبة التطور" هو تبسيط مخل للحقيقة. لقد كانت هناك أيادٍ خفية وظاهرة عملت بجد لضمان سقوط هذه الإمبراطورية.

نوكيا: إرث لا يموت وجريمة لم يُحاسب عليها أحد
قصة نوكيا هي أكثر من مجرد دراسة حالة في عالم الأعمال. إنها قصة عن الطموح الإنساني والابتكار والنجاح والفشل والخيانة المكتملة الأركان. لقد غيرت نوكيا العالم ووضعت هاتفاً محمولاً في يد كل شخص تقريباً وربطت بين الناس بطرق لم تكن ممكنة من قبل. إرثها لا يقتصر على الأجهزة التي أنتجتها بل يمتد إلى التقنيات التي طورتها والمعايير التي ساهمت في وضعها والأثر الذي تركته على حياة الملايين.
"اغتيال" نوكيا بالأدلة الظرفية والقرارات غير المبررة وتضارب المصالح والمكاسب الشخصية، كلها تشير بوضوح إلى أن ما حدث كان أكثر من مجرد سوء إدارة أو فشل في التكيف. لقد كانت عملية تصفية مدبرة، لكن الحقيقة الكاملة بتفاصيلها الدقيقة وأسماء المتورطين بشكل مباشر قد تظل طي الكتمان محمية بجدران سرية الشركات والمصالح الكبرى. ما هو مؤكد هو أن نوكيا، العملاق الفنلندي، سقط سقوطاً مدوياً نتيجة هذه الأفعال وأن عالم التكنولوجيا خسر لاعباً كان يمكن أن يستمر في تشكيل مستقبله لولا هذه المؤامرة.
أما بالنسبة لمستقبل علامة نوكيا التجارية في عالم الهواتف فهو يبدو غامضاً، قد تستمر في الظهور على بعض الأجهزة كنوع من التكريم لإرث الماضي لكن يبدو أن مركز الثقل قد انتقل إلى مكان آخر. ومع ذلك، فإن قصة نوكيا، بكل ما فيها من مجد ومأساة، وبكل ما تحمله من اتهامات صريحة بالخيانة والتآمر، ستظل تروى وستبقى نغمتها الأيقونية تتردد في ذاكرة كل من عاش عصرها الذهبي كتذكير دائم بأن حتى أعظم الإمبراطوريات يمكن أن تسقط بفعل فاعل وأن التاريخ يكتبه المنتصرون، ولكن الأسئلة حول العدالة والمساءلة تبقى معلقة في الهواء تنتظر إجابات قد لا تأتي أبداً في عالم تحكمه المصالح لا المبادئ.
المصادر:
- The rise and fall of Nokia mobile phones - Finland Today
- القصة الحقيقية كيف تم تدمير نوكيا؟ | محمد يوسف - YouTube
- تاريخ نوكيا | ويكيبيديا
- نوكيا.. عملاق فنلندي "حطمته" أبل وسامسونغ
- لحن نوكيا | ويكيبيديا
- Nokia chairman admits mistake over Stephen Elop payoff details | Digital Spy
- Who Killed Nokia? Nokia Did | Knowledge
- Fredrik Idestam | Wikipedia
- The Strategic Decisions That Caused Nokia’s Failure | Knowledge
- Nokia's chief executive to staff: 'we are standing on a burning platform' | The Guardian
- Microsoft to acquire Nokia’s devices & services business, license Nokia’s patents and mapping services | Microsoft News
- HMD Official Website
- Why did Nokia go for Windows Phone 7 when the N9 shows that MeeGo wasn't as far behind as previously thought? | Quora
- 4 شركات تهيمن على مبيعات الهواتف المحمولة خلال عقدين .. «نوكيا» تتصدر بـ 1.7 مليار و«أبل» 1.4 مليار | الاقتصادية
- لماذا فشلت أنظمة Windows Mobile و Symbian و MeeGo؟ | حسوب
- نوكيا تطرح منتجها الجديد Nokia N9 أول محمول يعمل بتقنية ميجو | العربية | بتاريخ 21 يونيو 2011
قد يثير انتباهك أيضاً:
رمز QrCode الخاص بالخبر

التعليقات